الحجة هدى مرمر
أراد الإسلام للحياة الزوجية أن تكون الحصن الحصين الذي تجتمع فيه كلّ معاني التكامل والتوازن بين العقل والعاطفة، وجميع معاني المودة والرحمة والألفة والسكن الذي يعني الاستقرار المادي والروحي والنفسي، فقال عزّ من قائل ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم: 21).
فليست الثروة المادية هي التي تصنع السعادة الزوجية، ولا المهر، ولا أثاث المنزل... وإنّما كلّ تلك المعاني الصافية والطيّبة.
وإذا أردنا أن نعطي نموذجاً ناجحاً لهذا الزواج، فلن نجد أفضل من زواج أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، بدءاً من مقدماته إلى نتائجه. وما يميز هذا الزواج هو عظمة ومنزلة ومكانة هذين النورين اللذين اقترنا بأمر الله تعالى، واحتفال سكان السماوات بهذا الزواج قبل أن يحتفل به سكان الأرض، فكان زواجاً ميموناً لم تعهد البشرية مثله منذ بدء الخليقة إلى يومنا الحاضر، بل لن تعهد مثيله إلى قيام الساعة. فكيف حصل هذا التزويج في السماء والأرض؟
* شروط الزواج:
لقد تواترت الأحاديث والروايات التي أكّدت أنّ زواج السيّدة الزهراء عليها السلام والإمام علي عليه السلام كان بأمر من الله عزّ وجلّ. فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إنّما أنا بشر مثلكم، أتزوج فيكم وأزوّجكم إلا فاطمة، فإنّ تزويجها نزل من السماء"(1)، ومع ذلك، فقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبّت سنّة في مجتمع كانت تسوده عادات الجاهلية البالية، حيث لم يكن لرأي الفتاة في الزواج أي اعتبار، ولا وزن لقناعتها، ولا قيمة لخيارها، فهي مجرد سلعة تباع وتشترى. فجاء نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم ليغيّر هذا الواقع الفاسد ويعلن أنّه لا بدّ من موافقة الفتاة على الزواج وإلاّ يعتبر عقد الزواج باطلاً. لذلك، يروى أنّه صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة عليها السلام ليبلّغها أنّ علياً عليه السلام قد أتاه خاطباً إياها. فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة... إنّ علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه، وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً، فما ترين؟" فسكتت عليها السلام ولم تولِّ وجهها، ولم ير فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهة، فقام وهو يقول: "الله أكبر! سكوتها إقرارها"، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: "يا محمد زوّجها علي بن أبي طالب فإنّ الله قد رضيها له ورضيه لها"(2).
* المهر:
أمّا المهرالذي كان يعتبر في الجاهلية ثمناً للفتاة لقاء تملُّك الرجل لها، فقد جاء نبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم ليقول إنّ المهر لا يمثّل أي نوع من أنواع التملك، كما إنّ ارتفاعه لا يعني تأكيد القيمة الاجتماعية للفتاة، بل يستهدف رفع قيمتها ووضعها في مكان لائق، وقيمته المعنوية أكثر بكثير من قيمته المادية.
لذلك، عبّر القرآن الكريم عنه بأنّه نحلة ﴿وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ (النساء: 4)،
وهو عطية وهبة يقدّمها الرجل للمرأة كهدية وعربون محبة، وإنّ الذي يحفظ الحياة الزوجية هو المودة والرحمة والأخلاق الحسنة والمسؤولية المشتركة بين الطرفين. لذلك عندما جاء علي عليه السلام خاطباً فاطمة عليها السلام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك شيء أزوّجك به؟" فقال علي عليه السلام : "فداك أبي وأمي! والله، لا يخفى عليك من أمري شيء، أملك سيفي ودرعي وناضحي (البعير الذي يحمل عليه الماء)، وما أملك شيئاً غير هذا".
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا علي! أمّا سيفك فلا غنى بك عنه تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنّي قد زوّجتك بالدرع ورضيت بها منك"(3).
ويقال إنّ علياً عليه السلام باع الدرع بأربعمائة وثمانين أو بخمسمائة درهم بحسب بعض الروايات. وعن أبي جعفر عليه السلام : "كان صداق فاطمة عليها السلام جرد برد حبرة ودرع إهاب كبش يلقيانه ويفرشانه وينامان عليه"(4).
وفي رواية أخرى، أنّ الزهراء عليها السلام طلبت أن يكون صداقها شفاعة المذنبين من أمّة أبيها صلى الله عليه وسلم، فنزل جبرائيل عليه السلام ومعه بطاقة من حرير مكتوب عليها: (جعل الله مهر فاطمة الزهراء عليها السلام شفاعة المذنبين من أمّة أبيها)(5).
* كيفية حصوله في السماوات
من خلال تتبع الروايات الواردة بشأن زواج النورين، نجد أنّ هذا التزويج حصل في السماء الرابعة، وكان هناك حفل عظيم شاركت فيه الملائكة والحور العين وأنّ الجنان قد تزيّنت، وشجرة طوبى نثرت الحلي والحلل، وألقيت فيه الخطب من قبل الملائكة، إعظاماً لهذا الزواج المبارك. فقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة عليها السلام : "زوّجتك سيّداً في الدنيا وإنّه في الآخرة لمن الصالحين. يا فاطمة، لمّا أراد الله أن أملّكك بعلي، أمر الله جبريل فقام في السماء الرابعة، فصفّ الملائكة صفوفاً ثمّ خطب عليهم فزوّجك من علي، ثمّ أمر الله شجر الجنان فحملت الحليّ والحلل، ثمّ أمرها فنثرته على الملائكة، فمن أخذ منه شيئاً يومئذ أكثر مما أخذ غيره افتخر به الى يوم القيامة"(6).
* التزويج في الأرض
أمّا التزويج في الأرض، فلم يقلّ بهجة وسروراً عمّا جرى في السماء، إذ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب من علي عليه السلام أن يخرج إلى المسجد، ثمّ خرج بإثره ليعلن أمام الناس الخبر العظيم، وطلب صلى الله عليه وسلم من بلال والمقداد وسلمان وأبي ذر أن ينطلقوا في جنبات المدينة ويجمعوا المهاجرين والأنصار والمسلمين، وبعد أن امتلأ المسجد بأهله جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعلى درجة من منبره وخطب خطبة. وذُكر أنّ علياً عليه السلام خطب خطبة. فقال المسلمون: "زوّجته يا رسول الله؟" فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال المسلمون: "بارك الله لهما وعليهما وجمع شملهما"(7).
وبحسب بعض الروايات أنّ هذا الزواج قد حصل في أول يوم من ذي الحجة أو في السادس منه سنة ثلاث من الهجرة.
* نتيجته الشخصية والإنسانية العامّة
إنّ زواج النورين كان زواجاً مباركاً من عند الله تعالى، وقد شكّل نبراساً لكلّ السالكين في طريق الهداية والرشاد، ومثّلت حياتهما الزوجية مثالاً يحتذى لكلّ السائرين في طاعة الحق، وقدوة للذين يريدون نيل الدرجات العلى عند الله تعالى. فمع بساطة العيش كانت عظمة الزهد في بيت تكتنفه القداسة والطهارة، وترفّ في أرجائه أجنحة الهناء والسعادة، كيف لا وهي سيّدة نساء العالمين وابنة سيّد المرسلين وبضعته وقلبه وروحه التي بين جنبيه، من يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وهو أمير المؤمنين ومولى المتقين، صاحب الولاية العظمى والخلافة الكبرى والإمامة المطلقة.
لذا جاء في حديث جبرائيل عليه السلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا محمد إنّ الله جلّ جلاله يقول: "لو لم أخلق علياً لما كان لفاطمة ابنتك كفو على وجه الأرض آدم فمن دونه""(8).
فكيف لا تكون حياتهما حياة ملؤها المحبة والمودة والسكينة والرحمة وأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "فوالله، ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزّ وجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان"(9).
وقد أثمر هذا الزواج الميمون أسمى هدية للبشرية جمعاء، حيث استجاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فأخرج منهما النسل الطيب وأئمة الهدى خلفاء الله في أرضه وأمناءه على وحيه، الذين من تمسّك بهم نجا ومن تخلّف عن سيرتهم وتعاليمهم ضلّ وغوى، فكان الحسن والحسين عليهما السلام والتسعة المعصومون من ذرية الحسين عليهم السلام آخرهم قائمهم الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، الذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً،
وكانت الحوراء زينب (ع) العالمة غير المعلمة والفاهمة غير المفهمة وأختها أم كلثوم، اللتان شاركتا الإمام الحسين (ع) في نهضته وحفظه للإسلام من خلال مواقفهما المشرفة بعد استشهاده (ع)، فكانوا بأجمعهم الأنوار الساطعة والنماذج الفذّة والقدوة الصالحة التي تحكي عظمة التربية العلوية الفاطمية.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص568.
(2) آمال الشيخ الطوسي، ج2، ص38.
(3) المجلسي، بحار الأنوار، ج43، ص127.
(4) الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص378.
(5) إحقاق الحق، ج10، ص367. (
6) ابن حجر، لسان الميزان، ص96.
(7) المناقب، ج3، ص127.
(8) بحار الأنوار، ج43، ص92.
(9) بحار الأنوار، ج43، ص134.