ان حاجة المرء للمال تعتبر حاجة طبيعية لادارة شؤون الحياة لا سيما وانّه يتحمل مسؤولية ثقيلة تتمثل في عياله. ولا ينطوي المال والثروة أو الكسب والتجارة بذاتها وبعيداً عن تدخل الانسان على اي نوعٍ من الخير والشر. ان الأموال وما تدرّه التجارة تعتبر بالنسبة لمن توسّم الآداب الالهية وعشق الحق تعالى، منطلقاً للعروج نحو الملكوت ووسيلة لبلوغ القرب من رب العالمين وسبباً في نزول صلواته ورحمته وموجباً لنيل الثواب العظيم والنعم الأبدية. نعم، فالمال بالنسبة للمؤمن الذي تحلّى بالجود والكرم والرأفة تخلّق باخلاق الله سبحانه، يعتبر رأس مالٍ للاتجار من أجل الآخرة ووسيلة للسفر نحو النعيم الأبدي، ومنبع خيرٍ في الدنيا والآخرة.
يقول الإمام الصادق (ع):"رضوان الله والجنّة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا" . بناءً على ذلك، يعتبر المال والثروة بمثابة المصنع الذي يدرّ برضى الله والجنان على المؤمنين، اذ ان المؤمن يكسب المال عن طريق الحلال ومن خلال اتباعه للجوانب الشرعية بعيداً عن التعامل المحرّم ملتزماً بما خُلِّل من المعاملات، وباختصار مستظلاً بظلال طاعة الله سبحانه، ثم ينفقه على عياله ويؤدي ما عليه من واجبات كالخمس والزكاة، ويبادر الى اعانة السائل والمحروم، يأخذ بيد الضعيف والمظلوم، ويعين الأقربين والمعارف، وفي الحقيقة فإنّ انفاق المال المكتسب عن طريق الحلال في هذه الموارد الشرعية والطبيعية يعتبر طاعة وعبادة، وكما عبّر القرآن الكريم عنه بخير الدنيا والآخرة، ومن هنا عُبِّر في كتاب الله عن المال والثروة بالخير او الحسنة، وكسبه وانفاقه كالعبادة بالنسبة للمؤمن ومدعاة للحصول على الأجر العظيم والثواب الأبدي.
الحلال والحرام: لا شك في ان ما يحصل عليه الانسان نتيجة عمله في التجارة والكسب المحلّل يعتبر من الكسب والاتجار الذي أمر الله به وقد عُبِّر عنه في فقه اهل البيت (ع) بالحلال، وكل ما اكُتسب بصورة غير مشروعة كالرشوة والاغتصاب والسرقة والسلب والمكر والنهب والربا انما هو حرامٌ. ان السعي من أجل كسب الحلال يعتبر عبادة وموجباً للحصول على الأجر والثواب، اما السعي من أجل نيل الحرام الحرام فهو معصيةٌ ويعتبر سبباً في حلول العذاب والغضب الالهيين.
ومن انحرف عن طريق الحلال وسار في طريق الحرام وإذا ما نُصح فهو يدّعي الاضطرار لان الله قدّر له ذلك، لا شك بأنه يتّهم الباري عز وجل ويقول شططاً ويرتكب كذباً محضاً. هنالك الكثير من الآيات التي تؤكد ان الله سبحانه قدّر لجميع الناس الرزق من الحلال الطيب ودعاهم لكسب الحلال والأكل منه، ولم يقدِّر لاحدٍ الرزق من الحرام، اذ ان الحرام يعتبر مصدراً لانحراف الانسان على الصعيدين الفكري والأخلاقي وسبباً في تدني ايمانه. فليس من العدل والحكمة ان يقدّر الباري تعالى الرزق من الحرام فيما تتركز أوامره على أكل الطيبات، ولو كان كذلك لكان تناقضٌ في ارادته وأوامره والحال ان التناقض منتفٍ عن الذات الالهية المقدسة، غير ان الجهلة من الناس هم الذين يفترون على الله ذلك نتيجة حماقتهم وجهلهم. ويقول تعالى في مواضع آخر:" ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات".
انفقوا على عيالكم من الحلال: هنالك مجموعة من الآثار الظاهرية والباطنية المترتبة على الحلال والحرام مما لا مفر لأحدٍ من الابتلاء بها. ففي الحلال يكمن رضى الباري تعالى والحافز نحو العبادة، والنشاط الروحي وصفاء القلب والشفاء من كل داء، والحرام على العكس من الحلال تماماً. ومن بين الأمور الفقهية التي تناولتها الآيات واحاديث أهل البيت (ع) بشكل ملفت للنظر هو وجوب النفقة على العيال وذلك ما يقع على عاتق رب الاُسرة، اذن ان توفير السكن والملبس والطعام حسب القدرة للزوجة وأولاد يعتبر من التكاليف الشرعية المناطة بالرجل.
وإلى جانب هذا التكليف الذي يعدّ مسؤولية الهية تقع على عاتق رب الاُسرة، ثمة تكليف آخر وهو وجوب طلب الحلال لسدّ مخارج العائلة، وعلى رب الاُسرة تقدير هذين التكليفين الالهيين بكل وجوده، اذ عن طريق هذين االتكليفين تتفتح براعم الحياة في جانبها الأخلاقي وذلك لا يتسنى الا من خلال الاهتمام بالشؤون الحياتية للزوجة والأولاد، كما انّ ذلك يعتبر عبادة غاية في الأهمية ومفعمة بالأجر بالنسبة للانسان، وان السعي لطلب الرزق الحلال بمثابة جهادٍ في سبيل الله! وإذا ما تغذى العيال من الحلال ستظهر على كيانهم آثارٌ ايجابية وملكوتية وذلك ما يساعد على سيادة الأمان والاستقرار القلبي والنفسي لافراد العائلة. قال الرضا (ع): " ان الذي يطلب من فضل يكفُّ به عياله اعظم اجراً من المجاهد في سبيل الله" .
وقد ورد في الروايات ان سعة الرزق وضيقه انما هو ابتلاء للعبد كي ينال رفيع الدرجات من لدن الباري عز وجل."طوبى لعبد جاع وصبر وشبع فشكر" . فالمؤمن لا يهن إذا ما ضاق رزقه، ولا يصاب بالغرور إذا توسع عليه، وإذا ما ضاق رزقه فهو لا يجانب الحلال، وإذا ما وُسِّع عليه فهو يأكل ويطعم ويبادر إلى اداء التكاليف الالهية. موجبات سعة الرزق: نلمس في آيات القرآن الكريم والأحاديث الكثير من موجبات زيادة الرزق، وبالاضافة إلى ان الالتزام بها يؤي إلى زيادة الرزق، فإنّها تبعث على تنامي الجانب الأخلاقي والعاطفي لدى الاُسرة والمجتمع.
قال أمير المؤمنين (ع):"في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق" . وعنه (ع):"ان البرّ يزيد في الرزق" ، وقال(ع) :" حسن الخلق يزيد في الرزق" ،"استنزلوا الرزق بالصدقة، وعن الامام الباقر (ع):"عليك بالدعاء لاخوانك بظهر الغيب فإنّه يُهيل الرزق" ، وقال أمير المؤمنين (ع):"من حسُنت نيّته زيد في رزقه" .
المال الحرام: عن الرسول (ص):"مَن اكتسب مالاً من غير حلِّه كان زاده إلى النار". ان الأموال التي لا تُخمّس ولا تُزكى ولا يؤدي منها حق السائل والمحروم وسائر الحقوق الشرعية انما هي بحكم الحلال المختلط بالحرام، وهي مما لا يجوز التصرف به، واطعام العيال من الحرام أو ما اختلط به يعتبر بحد ذاته معصية غير المعصية التي ترتكب في كسب الحرام أو منع الحقوق الشرعية. قال أمير المؤمنين (ع):"شرّ الأموال مالم يخرج منه حق الله سبحانه" .
فيا اخوتنا الاعزاء، يا من تتحملون اليوم مسؤولية توفير الجوانب المادية والتربية الروحية لزوجاتكم واولادكم، ويا من تزمعون بناء الحياة الزوجية في المستقبل! ان لعيالكم حقاً عليكم، وهو الحق الذي عُبِّر عنه في الكتب الفقهية بالنفقة، وهم ليسوا مسؤولين عن عملكم وتجارتكم، وفي المحشر اذ لا خبر لديهم عن ما يحيط بكم فلا يتحمّلون ما اكتسبه رب الاُسرة من حرام، فنيران الحرام لا تحيق الا بمن كسب الحرام اذ عليه ان يتجرع ضعفين من العذاب، عذاب نتيجة كسبه للحرام، آخر لاطعامه الآخرين منه، فعليكم التزام جانب الحذر فيما يردكم من دخلٍ وعليكم التزام القناعة بما احلَّ الله لكم، واجتناب ما حرّم الله، وعليكم اداء ما على الأموال من حقوق شرعية كي تعمر دنياكم وآخرتكم.
[1] مستدرك الوسائل ج 218/16.
[1] البحار:389/77.
[1] البحار:81/74.
[1] البحار:396/71.
[1] البحار:60/76.
[1] البحار:21/103.
[1] ميزان الحكمة:308/9.
المصدر* حسين أنصاريان ،الأسرة ونظامها في الإسلام ،دار المحجّة البيضاء-دار الرسول الأكرم(ص)،الطبعة الأولى 14319هـ-1998م،ص271-282.