﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللّمم﴾
اللّمم يعني أنّ الإنسان عندما يرتكب خطأً ما عن جهالةٍ، فإنّه يتوجّه فوراً إلى الله عزّ وجلّ، ويقول: يا ربّ قد أخطأتُ، ثمّ يبادر إلى التوبة. هذا هو اللّمم. نعم، قد يتكرّر هذا الخطأ من الإنسان، إلّا أنّ هذا لا يعني الإصرار على الذنب والمعصية. هذه الأخطاء التي قد يرتكبها الإنسان مرّةً، كلّنا لدينا مثلها، كلّنا ـ نحن غير المعصومين ـ نُبتلى باللّمم، إذا راقبنا أنفسنا فإنّنا نُبتلى باللّمم، فماذا لو لم نراقب أنفسنا أصلاً؟! مثل ذلك الإنسان الذي يقف على رأس شلّالٍ، لكنّه سرعان ما يفقد السيطرة على نفسه، حتّى يهوي مع الشلّال إلى قعر الوادي.
عليكم أن تقوّوا الإيمان فيما بينكم، في مجموعتكم، في نسائكم وأطفالكم، في أسركم وعائلاتكم. أريد اليوم أن أذكّر جميع الحاضرين الأعزّاء هنا من الإخوة والشباب والرجال أنّ عليكم الاهتمام بأُسركم وعائلاتكم. في بعض الأحيان، قد تتحوّل العائلة إلى وسيلةٍ للفساد، وذلك عندما لا نهتمّ بها، ولا نراقب شؤونها، عند ذلك يمكن أن تفسدنا عائلاتنا، لماذا؟ لأنّ العائلة تشكّل وسيلة ضغطٍ قويّة على كلّ واحدٍ منّا؛ لما لها من المحبّة في قلوبنا. ه
ذه المحبّة التي تترك أثرها علينا، على عقلنا، وتفكيرنا، ومعتقداتنا، وتشخيصنا، حتّى إذا زلّ بنا اللّسان مرّةً بسبب ذلك، شعرنا مرّةً بعد أُخرى بأنّ هذه الزلّة ليست سيّئةً إلى هذا الحدّ. لذلك يمكن أن تكون العائلة مصيبةً من هذه الناحية، إذا لم نراقبها جيّداً، ولم نُعطها كثيراً من الاهتمام والرعاية. علينا أن نهتمّ بعائلاتنا، بنسائنا، بأولادنا. أحياناً يكونون أفضل منّا، وأحياناً يكونون بحاجةٍ إلينا كي نصونهم ونحافظ عليهم.
فإن كانوا أفضل منّا فعلينا أن لا نقوم بما يسيء إليهم، أو يتسبّب بفسادهم. وإن وجدنا أنّهم بحاجةٍ إلى عوننا ومساعدتنا فعلينا أن نساعدهم ونقدّم يد العون إليهم. قال تعالى: ﴿قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة﴾، وهذه الآية دالّة بشكلٍ صريح وواضح على أنّ وظيفتنا هي الحفاظ على نسائنا وأولادنا. وبطبيعة الحال، نحن بحاجة في ذلك إلى العود والمدد من الله سبحانه، وعلينا أن نعلم ذلك جيّداً، علينا أن نطلب منه تعالى المدد والعون والمساعدة.
يجب أن نستفيد من هذه الفرص. وها هو شهر شعبان ـ للأسف الشديد ـ على مشارف الانقضاء. شهر شعبان شهر الدعاء، وشهر العبادة.
نقرأ في الصلوات الشعبانيّة المذكورة في كتاب مفاتيح الجنان: «الذي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يدأب في صيامه وقيامه في لياليه وأيّامه بخوعاً لك في إكرامه وإعظامه إلى محلّ حمامه»، وبعد هذه الصلوات ورد: «اللّهمّ فأعنّا على الاستنان بسنّته فيه». وأنتم تعلمون جيّداً أنّ شهر شعبان هذا هو الممرّ وجسر العبور إلى شهر رمضان المبارك. شهر رمضان مائدة وقاعة الضيافة الإلهيّة، هو مَضافة عظيمة من دخلها، وكان متأهّباً لدخولها، مستعدّاً، باذلاً همّته وما يستطيعه فيها، فإنّه سيستفيد من كلّ ما أتاحه الله تعالى على هذه المائدة من النعم والخيرات، وسيحصل لنفسه على نفعٍ كبير منها، وهذه المنافع والمواهب الإلهيّة لا يتوفّر مثلها في شهر شوّال، ولا في غيره من شهور السنة، هي من مختصّات شهر رمضان.
فمن أنواع وأقسام هذه الضيافة الإلهيّة: الرحمة الإلهيّة، العزّة الإلهيّة، التوفيق الربّانيّ، القرب الإلهيّ، الشعور بالاستغناء الناشئ عن التفضّل الإلهيّ، الرزق المادّيّ، الرزق المعنويّ،
كلّ ذلك من بركات شهر رمضان المبارك، كلّ ذلك من صنوف المواهب التي أعدّها الله تعالى على هذه المائدة الإلهيّة. بعض الناس يدخلون هذه المضافة، لكنّهم لا ينظرون إلى هذه المائدة، بل يمرّون من وسطها، من بين المواهب والنعم الموجودة عليها، دون أن يستفيدوا لأنفسهم بشيءٍ منها. وبعض الناس قد يحصّلون لأنفسهم نفعاً منها، لكنّه نفع قليل، فنحن إذا اقتصرنا على الإمساك عن الطعام والشراب، فإنّ ما سنحصّله من هذه الضيافة الإلهيّة سيكون قليلاً جدّاً ومختصراً.
لكنّ البعض منّا يجلسون إلى هذه المائدة، بهمّةٍ عالية، وعزيمة راسخة، فيملأون جعبتهم من صنوف الرحمة الإلهيّة المبذولة عليها، فهم يريدون العزّة، ويريدون الدنيا، ويريدون الآخرة، ويريدون دفع البلاء، ويريدون الرخاء والرفاهية في الدنيا، ويريدون العفّة وعزّة النفس والاستغناء عن الخلق، ويريدون عالي الصفات والأخلاق الحسنة، وبعزيمتهم وصبرهم ينالون كلّ ما يريدونه لأنفسهم، وللآخرين أيضاً. ولكي يتمكّن الإنسان عند دخوله لهذه المضافة أن يمعن النظر جيّداً في النعم الإلهيّة الموجودة فيها، كي لا يصاب بالغفلة والذهول، كي يبقى منتبهاً لكلّ ما يراه هناك، كي يعرف أين يجلس تحديداً، ومن أيّ بابٍ يدخل، كي يتمكّن من الاستفادة التامّة من الضيافة الإلهيّة، كي نكون أنا وأنت على جهوزيّةٍ واستعدادٍ لهذه المواهب العظيمة، فقد وضعوا لنا شهري رجب وشعبان.
فلرجب نكهة ولون خاصّ، ولشعبان نكهة ولون آخر. شهر رجب هو في الأغلب شهر الصلاة، وأمّا شهر شعبان فهو في الأغلب شهر الدعاء والصيام. وهذه المناجاة الشعبانيّة بين أيديكم. وأنا كنتُ فيما مضى قد سألْتُ الإمام الراحل (رضوان الله عليه) أنّه من بين هذه الأدعية المأثورة الواردة، ما هو الدعاء الذي تفضّلونه وترتاحون إليه أكثر، فقال: دعاء كميل والمناجاة الشعبانيّة.
وللصدفة، فإنّ كلا هذين الدعاءين هما من أدعية شهر شعبان. فأنتم تعلمون أنّ دعاء كميل وارد أصلاً في ليلة النصف من شعبان، كما أنّ المناجاة الشعبانيّة المنقولة عن الأئمّة (عليهم السلام) منقولة أيضاً في أعمال شهر شعبان. ونلاحظ أنّ لهذين الدعاءين لحناً متقارباً، ففي المناجاة الشعبانيّة: «وإن أدخلتني النار أعلمْتُ أهلها أنّي أحبّك»، وفي دعاء كميل: «لئن تركتني ناطقاً لأضجّنّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين».
يجب أن نأنس بمثل هذه الأدعية المباركة، وأن نرقّق بها قلوبنا. إنّ هذا القلب هو شيء عجيب جدّاً، ففي بعض الأحيان يتحوّل هذا القلب إلى وسيلةٍ لارتقاء الإنسان وعروجه إلى أعلى فضاءات الروحانيّة والأجواء المعنويّة، وفي أحيانٍ أُخرى، يكون بالعكس تماماً، يتحوّل إلى حجرٍ ثقيل، إلى صخرة مربوطةٍ برجل الإنسان تُغرقه وتهوي به إلى الأعماق السحيقة، إلى قعر الوادي، تأخذه إلى الهلكة.
فإن جعلتم قلوبكم متعلّقةً بالمال والشهوة الجنسيّة والمناصب وهذه المسائل الدنيويّة، فهو عندئذٍ سيتحوّل إلى هذه الصخرة الثقيلة، ولن يعود قلباً على الحقيقة.
هذا القلب الذي نغرس فيه حبّ السيّارة الكذائيّة، ليس قلباً، بل هو (كاراج)، أو (موقف سيّارات)!! هذا القلب الذي نجعله يتعلّق بالشهوة الجنسيّة لن يبقى قلباً، سيتحوّل إلى بيتٍ للدعارة.
القلب لا يكون قلباً إلّا إذا كان بيتاً لله عزّ وجلّ، بيتاً للنور الإلهيّ.
اللّهمّ اجعل هذه الكلمات التي قلناها مؤثّرةً في قلوبنا، في قلبي أنا، وفي قلوب هذا الجمع. وفّقنا للسعي والعمل والخدمة مع الإيمان والخشوع. اللّهمّ تقبّل منا ومنكم خدمتنا وبيّض وجوههنا عند صاحب العصر والزمان (عج).