أم ياسر، تقاوم..
اجتاحت "اسرائيل" جنوب لبنان، ووصلت من دون مقاومةٍ تُذكر الى بيروت، الأمر الذي فاجأ أم ياسر، وحثّها على الوقوف الى جنب زوجها، والثلّة القليلة العدد، من الشباب الذين تجمّعوا حول السيد عباس، في مشروع المقاومة ضد العدو الصهيوني.
في ذلك الزمان لا المقاومة مرغوبةٌ، ولا من يشجّع عليها أو يدعمها، فكيف تقاوم العين المخرز؟ وكيف تنتصر مجموعةٌ من الشّبان على أقوى جيوش المنطقة تسلحاً ودهاء؟
من هنا كان دور أم ياسر أكثر صعوبةً، فبدأت تخوض معركتها معتمدةً على قدرتها على التأثير في الناس، وحبهم لها، ليس لإقناعهم بالمقاومة فحسب، بل لدعم هذه المقاومة بكل ما في الإمكان من قدرات مالية، ولو كانت بسيطة.
ومع استشهاد الشيخ راغب حرب في جبشيت، ازدادت وتيرة المقاومة، وبدأ اسم "أم ياسر" يزداد حضوراً كمقاوِمة إسلامية تأخذ مكانها في الصراع، وهي تساند المجاهدين بكل ما تستطيع، بالدعاء ليل نهار، بصناعة الحلوى والطعام مما تيسّر عندها ، وباحتضان العائلات بكل ما تستطيع.
ومع الوقت أصبحت المقاومة الإسلامية شغل السيد عباس الشاغل، فقلّ حضوره في المنزل والمحيط، وإذا ما طال غيابه، تذهب هي إليه، في رحلاته الى الجنوب، فعرفت كل شيء عن المقاومة، وتدرّبت على حمل السلاح.
- ابنك صغير على حمل السلاح، مش حرام تبعتيه؟
- أريد لأبنائي أفضل مستقبل، وأريدهم أن يكونوا في أوائل المجاهدين.
هكذا كانت تردّ عندما يسألونها عن سبب إرسال ابنها "ياسر" الى الدورات التدريبية وهو ابن 12 سنةً، حتى إذا عاد ياسر، يرى سرور أمه به، ويشعر أنه اقترب من المكان المقدس في قلب أمه، مكان المجاهدين، وصارت تخصه بالعناية والدلال قائلةً:
- ولدي المجاهد ياسر.
أم ياسر.. لن تعيش بعد السيد عباس!
لم تُتعب الزوجة المجاهدة مسؤولياتها العديدة في رعاية أطفال وطالبات حوزةٍ وتبليغ، بل غياب زوجها عنها، ذلك الغياب الذي يشعرها أنها غير قادرةٍ على الحياة من بعد استشهاد السيد عباس.
جرّبت أم ياسر غياب السيد في رحلاته الى إيران، وزياراته للإمام الخميني، وفي أثناء مشاركته في الحرب الإيرانية العراقية، وفي عمله مع المقاومة في الجنوب، وشعرت أنها لا تستطيع الحياة من دونه، ولا تقبل خبر استشهاده.
وكانت تعلم بمشاركته في معركة "بدر الكبرى"، حين لم تتوقف عن الدعاء له وللمجاهدين معه، وعندما عاد السيد من المعركة سالماً، حمدت الله على استجابته دعاءها في حفظ زوجها وردّه سالماً.
- ولو يا أم ياسر.. ما بتدعيلي بالشهادة؟
صمتت. نظرت اليه وقالت:
- بدعيلك بالشهادة بشرط..
- شو الشرط؟
- إني استشهد قبلك.
- وبهون عليكِ تفارقيني؟ شو مفكرة غيابك سهل عليّ؟
صمتت، ولم يعاودا الحديث في هذا الموضوع لصعوبته، حتى حدث في يومٍ من الأيام أن خطر في بالها أمرٌ جعلها تستبشر وتطمئن.
خطر في بالها مرة، وهي تتكلم مع زوجها، أن تستشهد معه، كي لا يفارق أحدٌ منهما الآخر، بناء على دعاء:
- الله لا يفرقنا لا دنيا ولا آخرة.
وفي زيارتها الى إيران مع السيد عباس، طلبت من الله أن يريها إشارةً ليطمئن قلبها، إن كانت ستستشهد مع السيد. كانت تلك الإشارة أن ينظر اليها الإمام الخميني، ذلك العالم الجليل الذي ترى فيه شبيه أهل البيت عليهم السلام، والذي لا ينظر الى النساء مطلقاً عندما يمررن للسلام عليه وأخذ بركاته.
ففي الزيارة الأولى له، وضع يده المباركة على رأس ولدها حسين (الذي استشهد معها)، وقال بعد معرفته اسم الطفل:
- مظلومٌ حسين.
وهذه المرة، تأخذ معها ابنها محمد (الذي كان يعاني من التوحّد)، وتنتظر بفارغ الصبر أن ينظر الإمام إليها.
يقول المقربون منها إن قلبها كان يخفق بشدة وهي تقترب من الإمام، وتدعو الله أن يبشّرها بحلم لا يفارقها ليل نهار، حتى إذا اقتربت منه، نظر إليها وابتسم!
لم تكن الأرض لتسعها فرحاً، حتى بعد ذلك، عندما كان يمازحها أحد ليختبر ردة فعلها قائلاً:
- عظّم الله لك الأجر، استشهد السيد عباس،
كانت ترد بثقة:
- السيد ما بيستشهد إلا معي.
زوجة الأمين العام لحزب الله
لم تفرح يوماً أم ياسر بلقب "زوجة الأمين العام"، لما يحتّم عليها من مسؤوليات تجاه الناس، ونظرتهم اليها.
فمذ أصبح السيد عباس أمينا عاماً، جمعت عائلتها، وأخبرتهم بهذا المنصب الجديد، وشرحت لهم المسؤولية التي وُضعوا أمامها، لأنّ أنظار الناس اتجهت اليهم.. فمنذ الآن عليهم أن يكونوا أكثر تواضعاً، ويعيشوا مع الناس، بمساكينهم وفقرائهم، وحذّرتهم من أن يميّزوا أنفسهم كونهم أولاد السيد عباس.
لكنّها رأت أنّ حسنة هذا المنصب هو قربها من زوجها، إذ انتقلت العائلة الى بيروت، وسكنت بالقرب من الأمانة العامة.
تهتم أم ياسر في كل التفاصيل وأدقها فيما يتعلق بالسيد، في اللباس والهندام والحلاقة والطعام، تقرأ له وتكتب وتساعد بكل ما استطاعت، وتطبخ له وللشباب معه، فيأخذ ياسر الطعام كل يومٍ الى أبيه الذي عندما يعود، يلجأ إلى زوجته، لتداويه ابتسامتُها، وغالباً ما كان يعد القهوة بنفسه، ويجلس معها ليؤنسها في وقته القصير.
ومن مهامها آنذاك، رغم كبر العائلة، ومرض ابنها محمد بمرض التوحد الذي يستلزم رعايةً خاصةً، تولّت أم ياسر رئاسة فريق المتطوّعات في جمعية الإمداد التابعة لحزب الله. وتروي من كنّ معها عن موقفٍ سجّلته الذاكرة لتلك المجاهدة، أن في أحد الاحتفالات في فصل الشتاء، وعند وصول سيارة أم ياسر وباص المتطوعات الى مكان الاحتفال، توجّهت المتطوعات الى أم ياسر لأخذ التعليمات منها، فلم يجدنها، وكانت حافلة الناس قد توقفت في مكان أبعد لعدم قدرتها على الإاقتراب أكثر.
خاف الجميع على أم ياسر، خاصة وأن المطر كان شديداً، لكن سرعان ما أطلّ من بين جموع النساء اللواتي اضطررن الى المشي تحت المطرن امرأةٌ لا تحمل مظلةً، وقد تبللت بالأمطار والوحول. اقتربت منها المتطوعات ليرين إن كان قد أصباها مكروه، وأجهشت النساء بالبكاء عندما عرفن أنّ زوجة الأمين العام قد رافقتهم في الحافلة، ومشت معهم تحت المطر ومن دون مظلة.
ولا يغيب عن أحدٍ ممن شهد حياة السيد عباس الموسوي، ودخل بيته، بساطة الحياة التي عاشها.
فرغم أناقة البيت والبراعة في تنسيق الألوان، والكرم الذي لا يبرح موائد أم ياسر، تمرّ ايامٌ لا يرى فيها الأطفال أصناف الطعام والفاكهة أو الخضار، ولا يعرف أحدٌ أنّ الأثاث مُشترى من أرخص المحلات، وأنّ أم ياسر وضعت لمساتها عليه حتى لا تظهر عيوبه، ولباس الأطفال من محلات البالة، أو محاكةٌ من قماشٍ رخيصٍ يكون آخر ما بقي عند البائع فتشتريه زوجة السيد بسعرٍ زهيد.
وقبل آخر رحلةٍ للسيد عباس الى الجنوب، قال الطبيب وهو يعاينه:
- هذه التحاليل ضرورية الك يا سيد، وبأقرب وقت.
ابتسم السيد مداعباً وقال:
- مش محرزة دكتور.
وتبادلا النظرات الصامتة بينه وبين زوجته، إذ هناك موعدٌ لا يستطيعان تأجيله أو إلغاءه، رغم المرض والتهديدات الأمنية والطيران الإسرائيلي المحلّق في الأجواء..هو موعد تجدّد العهد مع النهج المقاوم في ذكرى الشيخ راغب حرب في جبشيت.
في ذلك النهار، وبعد انتهاء الحفل، كان للسيد وزوجته "الوصول"، وبقيت لنا صفحاتٌ نجمع منها صور تلك الراحلة نحو علياء الشهادة، برفقة من أحبّت، ومن وضعت.
تلك هي أم ياسر.
* من كتاب الوصول للسيد عبد القدوس الأمين