من هي هاجر؟
هاجر أمة قبطية .. قدمها أحد ملوك الرعاة في مصر – الهكسوس – إلى السيدة سارة زوجة إبراهيم الخليل (ع( جاءت مع سيدتها سارة من بلاد النيل إلى أرض كنعان في فلسطين، تقيدها أغلال الرق والعبودية وتؤلمها الغربة والبعد عن الوطن وفراق الأحبة الذين نشأت بينهم. كانت هاجر علاوة على جمالها ذكية عاقلة.. أعجبها دين إبراهيم (ع) فأسلمت وآمنت به.. واهتدت إلى طريق النجاة. وكانت السيدة سارة قد تقدم بها العمر.. وأصبحت عجوزاً عقيماً قد يئست من إنجاب الأولاد.. وإبراهيم (ع) يتلهف على ولد يكون خلفاً له.. فكرت في أن تهبه جاريتها الشابة المصرية هاجر ليتزوجها لعل الله يرزقه منها ولد ترتاح إليه نفسه.. ويطمئن باله.. فيسكن إلى الراحة.
وعلى الفور نفذت السيدة سارة فكرتها، وكان لها ما أرادت.. وتزوج إبراهيم من هاجر.. فحملت بإسماعيل. فلما ولدت هاجر ابنها إسماعيل فقدت السيدة سارة التجلد ونفذ صبرها . فلم تعد تحتمل رؤية هاجر وابنها.. ولم تطق وجودهم وفي ساعة غضب أقسمت سارة أمام إبراهيم أنه لا يمكن أن يؤويها وجاريتها سقف واحد.. والذي وعاه التاريخ من أن إبراهيم (ع) خرج من بادية الشام ميمماً شطر الجنوب نحو مكة التي كانت حينذاك مقفرة خلاء ومعه هاجر بين ذراعيها وليدها إسماعيل – بأمر من الله جل وعلا أن يلتمس لولده ملاذاً في حمى بقايا البيت العتيق..
أول بيت في الأرض عبد فيه الله سبحانه... وعند ربوة هناك في تلك الأرض الموحشة حيث أطلال البيت العتيق ترك إبراهيم (ع) زوجته هاجر وابنها إسماعيل ثم هم بالرجوع من حيث جاء. ارتاعت هاجر من وحشة الربوة والوحدة..
وراحت تتوسل إلى سيدها إبراهيم ألا يتركها وحيدة في ذلك البر الأقفر... لكنه (ع) أشاح بوجهه... كأنه كان يخشى أن تخونه عاطفته أو يتأثر لمرأى هاجر... الإنسانة الضعيفة... والأم الوالهة الحيرى... راحت هاجر المسكينة تتوسل بإبراهيم أن لا يدعها ووحيدها منبوذين بالعراء..
وإبراهيم (ع) ماضٍ في سبيله لا يلوي على شيء.. منصرف عنها وقلبه يخفق رحمة لها.. وشفقة عليها.. حتى إذا بلغ منعرج الوادي سمع صوتها الضارع المتوسل يسأل في لهفة وتأثر.. يا إبراهيم... الله أمرك أن تتركني وهذا الصبي الصغير في هذا المكان الموحش الخالي؟.. أجابها: نعم يا هاجر.. إن الله أمرني.. وأسأله أن يكفيكما... عند ذلك هدأت المسكينة..
وقالت في استسلام وخشوع: إذن .. مادام الله سبحانه أمرك... فالله لا يضيعنا... وأطرقت صامتة .. مستسلمة لمشيئة الله سبحانه وتعالى... إنصرف إبراهيم راجعاً من حيث أتى، فلما بلغ – كداء – وهو جبل بذي طوى – رفع وجهه إلى السماء حين غاب عن ناظريه الوادي حيث ترك إسماعيل وأمه.
ثم قال مبتهلاً إلى الباري سبحانه في توسل وضراعة: "رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ"1
. هاجر في حرم الله الآمن مضى إبراهيم... وبقيت هاجر وولدها في حجرها.. فلما ارتفع النهار.. ونفذت مؤنتها الضئيلة... بدا العطش يناوش قلب الصغير بعد أم جف لبنها.. وراح يبكي ويبحث بقدميه... عندها هبت المسكينة مذعورة تبحث عن الماء..هنا .. وهناك.
قامت في موضع السعي الآن ونظرت أي الجبال أدنى إلى الأرض.. فإذا – الصفا – قريب منها فصعدت عليه.. ثم استقبلت الوادي فلمع لها السراب في الوادي فظنت انه ماء نزلت في بطن الوادي تلتفت وتنظر.. فلما لم تجد إلا الوحشة، والصمت.. أتت المروة مهرولة تسعى سعي المجهد المكدود وصعدت علّها ترى أثراً للحياة.
أجهدها السعي بين الصفا – والمروة شوطاً بعد شوط – سبعة أشواط متتالية حتى نال منها التعب والإعياء.. ولم تدر أن سعيها هذا سوف يصبح – من جملة الطقوس والعبادة.. وفرضاً على جميع الحجاج المسمين. جلست على الصخرة منهوكة تلتقط أنفاسها.. ولكن لهاث ولدها الظامئ يفري كبدها.. ويمزق قلبها.. ومرآه على هذه الصورة أقسى من أن تحتمله أمومتها.
غطت وجهها بلفاعها وهي ترتعد وتقول: لا أنظر موت الولد... ثم أنها تهاوت على الأرض مستسلمة لقضاء الله فيها وفي ولدها. وكان الفرج بعدما يئست المسكينة من كل شيء إلا من رحمة الله... نظرت إلى إسماعيل فشاهدته يبحث بقدميه.. وقد ظهر الماء من تحت رجليه.. فهرعت إليه مسرعة نحو الماء وهي تحس موجة دافقة من القوة والحيوية قد سرت في كيانها... أقبلت على الماء بلهفة وشوق ترتوي وتسقي ولدها... ثم عادت تجمع حوله رملاً.. فإنه كان سائلاً.. فزمته بما جعلت حوله من الرمل... فلذلك سمي – زمزم –
وفي الحديث الشريف: قال رسول الله (ص): "رحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً"2. يروي أهل التاريخ وأصحاب السير: من أن قبيلة جرهم العربية كانت نازلة بذي المجاز... وعرفات .
فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء... فنظرت جرهم على تعكف الطير والوحش على ذلك المكان فاتبعتها.. وأشرفوا... حتى نظروا إلى امرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع وقد ظهر الماء لهما... فقالوا لهاجر: من أنتِ... وما شأنك وشأن هذا الصبي؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن.. وهذا ابنه... أمره الله سبحانه أن ينزلنا ها هنا... قالوا لها: أتأذنين لنا أن نكون بالقرب منكم – وننزل معكم على هذا الماء؟. فقالت: حتى يأتي إبراهيم.. وأستأذنه. وعندما أذن لها إبراهيم أذنت هاجر لجرهم... فنزلوا بالقرب منها.. وضربوا خيامهم في ذلك الوادي الأجرد .
فأنست هاجر وولدها إسماعيل بهم وذهب عنها ما تعانيه من وحدة ووحشة. ودبت الحياة والحركة في تلك البقعة المباركة في جوار البيت العتيق. وعن ابن إسحاق، قال : كان إبراهيم ) ع) إذا أراد زيارة إسماعيل وأمه هاجر.. حُمل على البراق .. يغدو من الشام ثم يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام. فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية، ونظر إلى كثرة الناس حولهم سُرَّ بذلك سروراً شديداً.
ثم رفع وجهه نحو السماء وقال: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ"3. نشأ وترعرع إسماعيل مع أمه بين الجرهميين.. وتعلم منهم الفروسية.. وتكلم العربية. وكانت جرهم أيضاً قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة أو شاتين.. فكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها. وفديانه بذبح عظيم اطمأن إبراهيم – العبد الشكور – وراح يسبح بحمد ربه الذي سمع ضراعته عندما وقف في منعطف وادي مكة يدعوه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى ذريته التي أسكنها بوادٍ غير ذي زرع عند البيت المحرم... ومن قبل كان إبراهيم (ع) قد اتجه إلى ربه يسأله الذرية المؤمنة... والخلف الصالح "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ"4.
استجاب الله دعاءه، "فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيم" 5، ورزقه إسماعيل، صادق الوعد.. والنبي المرسل.. وآية الفداء. راح (ع) يلهج بحمد الله وشكره على ما أنعم عليه وتفضل "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ" 6. وبعد هذا لنا أن نتصور فرحة إبراهيم الشيخ الكبير وقد وهب له العلي القدير غلاماً يشهد له بأنه حليم... وما يكاد يراه.. وقد تفتح شبابه، وبلغ معه السعي، وراح يرافقه في دروب الحياة.. حتى رأى إبراهيم في منامه أنه يذبحه... إنها رؤيا صادقة التي يراها الأنبياء.. وليست أضغاث أحلام... إنها إشارة آمرة للبذل والتضحية... إنها امتحان قاس وبلاء... فماذا يفعل.. إذن؟؟ ما عليه إلا الطاعة.. والاستسلام.. دون انزعاج أو اعتراض... إبراهيم الذي وفى.. لا يستسلم في جزع وخوف.. ولا يطيع في اضطراب ووجل بل يفعل كل شيء بالرضى والتسليم لأمر الله سبحانه.. يقول لابنه: بهدوء وروية.. يخاطبه في اطمئنان عجيب.. ودون أن يهوله الأمر: " يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى" 7.
نراه (ع) لا يأخذ ابنه على غرة أو تمويه لينفذ أمر ربه... بل يعرض الأمر عليه ويستشيره... يحقق الابن البار إسماعيل مراد أبيه ويوافقه بدون تردد أو وجل :" يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ" 8. لم يأخذ إسماعيل الأمر حين عرض عليه.. بطولة وشجاعة.. ولا اندفاعاً إلى الخطر والهلاك دون اهتمام أو مبالاة – بالذبح والموت – إنما أرجع الأمر إلى مشيئة الله سبحانه.. وطلب منه العون والصبر على تحمل البلاء.."سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ".
وفي رواية عن العياشي وعلي ابن إبراهيم: أن إسماعيل قال: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عني ثيابك حتى لا تنضح من دمي شيئاً فتراه أمي، واشحذ شفرتك وأسرع مرَّ السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد.. فقال إبراهيم: يا بني الوثاق مع الذبح!! والله لا أجمعهما عليك اليوم ورفع رأسه إلى السماء ضارعاً... ثم شحذ شفرته... "وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ" 9... واتقى النظر في وجهه.. ثم أدخل الشفرة لحلقه.. فقلبها الله لقفاها في يده... ونودي من ميسرة مسجد الخيف: "وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ*وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ"10.
وعن أبي عبد الله (ع): "فدي إسماعيل بكبش عظيم فذبحه وتصدق بلحمه على المساكين".11 هاجر في أواخر أيامها كانت آية الفداء... رحمة من السماء... نجا إسماعيل من الذبح... وعاد مع أبيه إلى أمه هاجر... لنا أن نتصور موقف هاجر عندما عاد إليها وحيدها سليماً معافى وأخبرها قصة الرؤيا... والذبح... لقد اهتزّ قلبها فرحاً.. ولهج لسانها بالشكر لسلامة ولدها الذي مسَّت الشفرة منحره وهو صابر مستسلم لأمر الله تعالى.. راضٍ بقضائه حتى إذا لم يبق بينه وبين الموت إلا قيد شعرة.. أنقذه الباري سبحانه بأغلى فدية... كبش من الجنة عظيم.
تتراءى لنا هاجر وقد هرعت إلى إسماعيل تشمه.. وتضمه إلى صدرها.. تشبعه لثماً وتقبيلاً وهي تردد: ... ما أوسع رحمتك يا رب... طارت الأنباء... تروي قصة الفداء.. فتوافد المهنئون.. وحفلت دار إسماعيل بوجوه قبيلة جرهم العربية وساداتها، الضاربين خيامهم في جوار البيت العتيق، والذين أصبحوا كالأهل لإسماعيل وأمه، احتضنوهما.. وبددوا وحشتهما.. وخففوا عنهما مرارة الوحدة... إنهم سكان مكة الأوائل. مرّت الأيام وهاجر ليس لها هم إلا إسماعيل، ترعاه بعينها كيفما سار، وقلبها يخفق حباً له وحناناً، وهي تراه وقد أينع صباه واكتمل شبابه..
أقبلت إليه وقد اعتزمت أمراً، فجلست تحادثه، ثم قالت: بني إسماعيل.. أريد التحدث إليك في أمرٍ يهمني، فهلا أصغيت؟ ها قد أصبحت يا بني شاباً قوياً، ملئ السمع والبصر، أريد أن أزوجك لتقر عيني بك وبأولادك.. وهذه أمنية كل أم... واحتضنته في حنو غامر. استجاب إسماعيل لرغبة أمه، وتزوج من فتاة يقال لها: السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي. توالت الأيام وهاجر قريرة العين بولدها، عاكفة على عبادة ربها تسبح بحمده... وتشكره على نعمه وألطافه. تلقى إبراهيم وإسماعيل أوامر الباري جل وعلا ببناء البيت الحرام، فصدعا بالأمر وبنيا الكعبة. "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"12.
رفعا القواعد من البيت المعمور، وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود. وكانا يدعوان الله "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"13.
استجاب الله للدعاء، وبعث في ذريتهما رسوله محمداً المختار (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الصفوة من ذريته إسماعيل بن إبراهيم – الذي أمه هاجر – أم العرب العدنانية – التي سجلها التاريخ على صفحاته – وأكرمها الله ورفع منزلتها، من أمة ضعيفة إلى مصاف أمهات الأنبياء. والذي وعاه التاريخ من أن هاجر عندما توفيت ورجعت نفسها المطمئنة إلى ربها دفنها إبنها إسماعيل في ناحية ملاصقة لجدار البيت – حجر إسماعيل – روى الشيخ الصدوق في كتابه علل الشرايع عن أبي عبد الله (ع) انه قال: "إن إسماعيل دفن أمه في الحجر، وجعله عالياً، وبنى عليها حائطاً لئلا يوطأ قبرها"14.
المصدر: كتاب نساء في القرآن – السيدة مريم نور الدين فضل الله – دار الزهراء.
1- سورة ابراهيم، 37.
2- سيرة الرسول وخلفائه:ج1 ص117.
3- سورة إبراهيم، 35.
4- سورة الصافات،100.
5- سورة الصافات، 101.
6- سورة الصافات، 101.
7- سورة الصافات،102.
8- سورة الصافات،102.
9- سورة الصافات، 103.
10- سورة الصافات: 104،107.
11- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسي، ج23، ص 78.
12- سورة البقرة، 127.
13- سورة البقرة، 128-129.
14- علل الشرايع الصدوق، ج1، ص37