يقول الله تعالى معرِّفاً رسوله صلى الله عليه وآله وسلم للناس: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 128)،﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾ (التوبة: 61)،﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، وقد جمع عزّ وجلّ أيضاً، فيه جميع ما تقدّم في هدف بعثته: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
هذه الآيات القرآنية تحكي لنا خُلُقَه صلى الله عليه وآله وسلم الكريم وأدبه الجميل يترجمها الكثير من الروايات المبيّنة لسننه ومجامع أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم التي تلوح إلى أدبه الإلهيّ الجميل، ومن هذه الروايات:
* صفته صلى الله عليه وآله وسلم ومنطقه
عن الإمام الحسن بن علي عليهما ااسلام قال: "سألت خالي هند بن أبي هالة عن حِلية رسول الله، وكان وصّافاً للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منه شيئاً لعلّي أتعلّق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخماً مفخّماً، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر(...) له نور يعلوه، يحسبه مَن لم يتأمّله أشمّ، دقيق المشربة (...)، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلُّ نظره الملاحظة، يبدر من لقِيَه بالسلام. قال: فقلت له: صِف لي منطِقَه، فقال: كان صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليس له راحة، طويل الصمت، لا يتكلّم في غير حاجة..."(1).
* رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزله
عن الإمام الحسين عليه السلام:"سألت أبي عليه السلام عن مدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (...)، فإذا آوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثمّ جزءٌ جزّأَه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصّة على العامّة(2)، ولا يدّخر عنهم منه شيئاً. وكان من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جزء الأمة، إيثارُ أهل الفضل بأدبه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمّة من مسألته عنهم، وبإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة مَن لا يقدر على إبلاغ حاجته؛ فإنّه مَن أبلغ سلطاناً حاجة مَن لا يقدر على إبلاغها ثبّت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلّا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره..."(3).
* رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس
تكمل الرواية: "وسألته عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانَه إلّا عمّا كان يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفّرهم، ويكرم كريم كل قوم ويولّيه عليهم... ويتفقّد أصحابه، ويسأل الناس عن الناس، ويُحسِّن الحسن ويقوّيه، ويُقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافةَ أن يغفلوا ويميلوا، ولا يقصِّر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمُّهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساةً وموازرة..."(4).
* رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلسه
قال: "فسألته عن مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: كان لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر، لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كلَّ جلسائه نصيبَه، ولا يحسب أحد من جلسائه أنّ أحداً أكرم عليه منه، مَن جالسه صابره حتّى يكون هو المنصرف، مَن سأله حاجةً لم يرجع إلّا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أباً، وكانوا عنده في الحقّ سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة..."(5).
* سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه
"فقلت: كيف كانت سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في جلسائه؟ فقال عليه السلام: كان صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر، سهل الخلق، ليِّن الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، فلا يؤيَّس منه ولا يخيِّب منه مؤمّليه..."(6).
* سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: "فسألته عن سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عليه السلام: كان سكوته صلى الله عليه وآله وسلم على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكير: فأمّا التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكّره ففيما يبقى ويفنى، وجُمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليُقتدى به، وتركه القبيح ليُنتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمّته، والقيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة"(7).
* هكذا يصفه أمير المؤمنين عليه السلام
كان الإمام علي عليه السلام إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشيرةً، من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبَّه، لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم"(8).
* أسخى الناس
"كان صلى الله عليه وآله وسلم أسخى الناس، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شيء ولم يجد مَن يعطيه وفجأ الليل لم يأوِ إلى منزله حتى يتبرّأ منه إلى مَن يحتاج إليه، لا يأخذ ممّا آتاه الله إلّا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، لا يُسأل شيئاً إلّا أعطاه ثمّ يعود إلى قوت عامه، فيؤثر منه حتّى إنّه ربّما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأتِه شيء"(9).
* يؤاكل المساكين ويناولهم بيده
"... ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويناولهم بيده، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم إلّا بما أمر الله، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه..."(10).
* دائم العمل لله
"وكان له عبيد وإماء من غير أن يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، لا يمضي له وقت من غير عمل لله تعالى أو لِما لا بدّ منه من صلاح نفسه، يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكيناً لفقره... ولا يهاب ملكاً لملكه، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاءً مستوياً"(11).
* كان صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس رضىً
وكان صلى الله عليه وآله وسلم"إذا سُرَّ ورضي فهو أحسن الناس رضى، فإن وعظ وعظ بجد، وإن غضب -ولا يغضب إلّا لله- لم يقم لغضبه شيء، وكذلك كان في أموره كلِّها، وكان إذا نزل به الأمر فوّض الأمر إلى الله، وتبرّأ من الحول والقوّة، واستنزل الهدى"(21).
* لم يقل لسائل: لا
وعن علي عليه السلام: "ما صافح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً قط فنزع يدَه من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، وما فاوضه أحد قطّ في حاجة أو حديث فانصرف حتّى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه أحد قط الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رُئي مقدِّماً رجله بين يدي جليس له قط، ولا خُيِّر بين أمرين إلّا أخذ بأشدهما، وما انتصر لنفسه من مظلُمةٍ حتّى ينتهك محارم الله، فيكون حينئذ غضبه لله تبارك وتعالى، وما أكل متّكئاً قطّ حتّى فارق الدنيا، وما سئل شيئاً قط فقال لا..."(31).
* يُلاطف الناس
ورد في الكافي الشريف عن عجلان قال: "كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فجاء سائل فقام عليه السلام إلى مكيل فيه تمر فملأ يده فناوله، ثمّ جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثمّ جاء آخر فسأله، فقام فأخذ بيده فناوله، ثمّ جاء آخر فقال عليه السلام: الله رازقنا وإياك. ثمّ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يسأله أحدٌ من الدنيا شيئاً إلّا أعطاه"(41).
إنّ"رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتيه الأعرابيّ فيأتي إليه بالهدية ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديّتنا، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا اغتمّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما فعل الأعرابيّ ليته أتانا"(51).
وهنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتمنّى مجيء الأعرابي، لأنه يسرّ به قلبه ويسلّي خاطره.
* كان صلى الله عليه وآله وسلم يعفو ويصفح
إنّ "رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتقم لنفسه من أحد قطّ، بل كان يعفو ويصفح"(61).
* يقول لمن يدعوه: لبّيك
وكان صلى الله عليه وآله وسلم"لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلّا قال: لبيك"(71).
* يدعو أصحابه بكناهم
ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم"يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالةً لقلوبهم، ويكنّي مَن لم يكن له كنية، فكان يُدعى بما كنّاه به، ويكنّي أيضاً النساء اللاتي لهنّ الأولاد واللّاتي لم يلدن، ويكنّي الصبيان، فيستلين به قلوبهم"(81).
ختاماً، لا يعدو ما استعرضناه كونه شيئاً يسيراً من خُلُقهصلى الله عليه وآله وسلم الذي اتّصف به، والذي كان ترجماناً عمليّاً لما ذكره القرآن الكريم من صفاته له صلى الله عليه وآله وسلم.
ونسأل الله أن يمنّ علينا لنقتدي بأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، ونكون زيناً له، لا شيناً عليه.
________________________________________
* المصدر : مجلة بقية الله - العدد 315
1.الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص422.
2.المراد أنّه صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان في جزئه الذي لنفسه خلا بنفسه عن الناس، لكنّه لاينقطع عنهم بالكلّيّة، بل يرتبط بواسطة خاصّته بالناس، فيجيبهم في مسائلهم، ويقضي حوائجهم، ولايدّخر عنهم من جزء نفسه شيئاً.
3.عيون أخبار الإمام الرضا عليه السلام، الصدوق، ج1، ص 283.
4.(م.ن)، ص 284.
5.(م.ن).
6.(م.ن).
7.(م.ن)، ص285.
8.مكارم الأخلاق، الطبرسيّ، ص18.
9.مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج1، ص126.
10.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج16، ص228.
11.سنن النبيّ، السيّد الطباطبائي، ص38.
12.(م.ن).
13.(م.ن).
14.الكافي، الكليني، ج4، ص56.
15.(م.ن)، ج2، 663.
16.جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج16، ص290.
17.المحجّة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج4، ص152.
18.منية المريد، الشهيد الثاني، هامش ص194.