بقلم الدكتور طلال عتريسي
الحديث عن الغزو الثقافي ليس جديدًا، فمنذ بدايات القرن الماضي احتلّت هذه القضية موقعًا مهمًا وحسّاساً في أذهان مفكري المسلمين وعلمائهم، وكلما كانت معادلة القوة تتجه في غير مصلحتهم، كانت الأصوات ترتفع والمخاوف تزداد من الغزو الثقافي الخارجي الذي يرى فيه المسلمون تهديدًا لنظام المناعة الأخلاقي والاجتماعي الذي يستندون إليه. منذ بداية احتكاك المسلمين بأوروبا، طرحت في أوساطهم الأسئلة حول النظرة إلى الغرب والى العلاقة به والتعامل معه، فمنهم من ذهب إلى القول بالانغلاق وإقفال الأبواب والنوافذ في وجهه، ومنهم من دعا إلى تقليده كنموذج غالب ومتقدم في كل شيء، في الإدارة وفي الجيش وفي التعليم وفي التنمية والتصنيع..
ومن العلماء والمفكرين من قال بأن علينا أن نأخذ من الغرب إيجابياته العلمية أو التكنولوجية، ونترك له سلبياته الفكرية والأخلاقية والسلوكية.. أي أن نتبّع سياسة الانتقاء، فلا نغلق الأبواب تمامًا، ولا نشرّعها من دون قيد أو شرط. نشهد اليوم في الموقف من الغرب (العولمة) تقسيمًا مشابهًا لاتجاهات القرن التاسع عشر التي أشرنا إليها. وثمّة مبررات يقدّمها أصحاب كل وجهة، ففي الوقت الذي يقول فيه أصحاب دعوة الانغلاق أن الغرب دار كفر ودار شرّ لا ينبغي الاقتراب منها، يرى آخرون أن ما نشهده اليوم في عالم الاتصال وثورة المعلومات يجعل التقسيم التقليدي بين الغرب وغير الغرب لا معنى له، كما يجعل الحديث عن الهوية ضربًا من الوهم والتقوقع، وبالتالي فلا معنى للحديث عن غزو ثقافي عندما يصبح الغرب جزءًا من حياتنا، ولا يمكن الاستغناء عنه ونحن نستخدم منتجاته،لأن الثقافة هي شأن إنساني يتجاوز الحدود والهويات.
هكذا لا زالت منذ قرن إلى اليوم تتكرر الاتجاهات نفسها من الغرب ومن ثقافته، علمًا بأن ما تغيّر هو اتجاه الحوار والتبادل، ورفض التصادم مع الغرب الذي أصبح أكثر اتساعًا في أوساط المسلمين. المهم أن هذا التفاوت في الاتجاهات من الغرب تأثّر بدوره بسياسات هذا الأخير الذي لم يهمل في مراحل تعاقب هيمنته الاستعمارية من أوروبا إلى الولايات المتحدة الشأن الثقافي وهو يسعى إلى السيطرة السياسة والاقتصادية. وعندما كانت تضطر الدول الاستعمارية إلى التراجع والانسحاب،كانت تترك في البلد المستعمر ركائز تعليمية ولغوية تتيح استمرار هيمنتها والنزوع نحو ثقافتها، مثل ما حصل في تجارب الاستعمار الفرنسي في الجزائر وفي بقية بلدان المغرب العربي، أو مثل ما حصل في إفريقيا وفي لبنان.
كان الاستعمار عندما يحتلّ بلدًا من بلدان المسلمين أو غيرهم يهتم اهتمامًا خاصاً بالتعليم وبالمؤسسات التعليمية، وكان يلجأ في ذلك إلى الوسائل التالية: - تأسيس مدارسه الخاصة التي تجذب إليها أوساطًا اجتماعية أو دينية محددة. - العمل على تدمير المدارس المحلية أو تهميشها. - العمل على اختراق المدارس المحلية عبر تغيير مناهجها، أو عبر فرض أساتذة عليها. كما كان لكل استعمار خصوصيته وخبرته في هذا المجال، فقد عمل الفرنسيون في لبنان - على سبيل المثال - وبالتعاون مع البعثات اليسوعية على تأسيس نظام تعليمي متكامل من المراحل الابتدائية إلى الجامعة، وأسسوا إلى جانب هذا البناء المتكامل مدارس مهنية ودور أيتام ومشاغل للفتيات بحيث يبقى الطالب في دائرة اهتمامهم ورعايتهم مهما كان خياره التعليمي أو المهني، ومهما كان وضعه الاجتماعي.
أما الإنكليز - وكنموذج آخر في هذا المجال - فقد عملوا على تهميش التعليم المحلي في مصر إبّان الاحتلال، فقتّروا في الإنفاق على التعليم، وأوقفوا الكثير من المدارس،وألغوا المجانية في المدارس كافّة، وعومل الأساتذة الوطنيون معاملة سيئة من النواحي المادية والأدبية، ولم يعدّل الإنكليز مناهج التعليم الشعبي، فتركوه على حاله، وعلى ضعفه في مرحلة أولى، ثم وضعوا له مناهج جديدة بعد الحرب العالمية الأولى. أما التعليم العام، فقد غيّر الإنكليز مناهجه من أجل نشر الثقافة الإنكليزية وإضعاف اللغة العربية، وإعداد الموظفين الذين سيديرون البلاد ويتعاملون مع الاحتلال، وتراجعت حصص اللغة العربية لمصلحة اللغة الإنكليزية التي أصبحت لغة أولى.
ولا يخفي الفرنسيون في رسائل قناصلهم وسفرائهم التي كتبوها من لبنان إلى وزارة الخارجية في باريس في القرن التاسع عشر "أنهم وضعوا هدفين للمِنَح التي يقدّمونها إلى الطلاب، الأول أن يجعلوا أتباعًا لهم من بين العائلات التي تمّ اختيار أبنائها لهذه المِنَح، والثاني تحفيز الطلاب ومسؤولي المؤسسات على دراسة اللغة الفرنسية"، "وأن تعليم الأطفال الذي ترعاه فرنسا هو من بين السبل التي يمكن بواسطتها نشر النفوذ الفرنسي... وأن المِنح المقدَّمة تسعى إلى إعداد قادة إنسانيين ومستنيرين في لبنان ".
لذا يقترح قنصل فرنسا في بيروت (Poujade) عام 1844م، زيادة هذه المنح لتشمل سكان لبنان كافة. أما الغاية الأولى من تأسيس كلية للطبّ في بيروت،فيقول أحد القناصل في رسالته إلى وزير الشؤون الخارجية عام 1898م: "فهي أن تكون مؤسسة دعائية وفكرة سياسية "... " يأتي إليها شبّان هذا البلد ليتعلّموا فيها العلوم الطبية، ويتمكّنوا من دراسة لغتنا، كي ينتشروا في المشرق فيما بعد، على غرار الكثير من أصدقاء نفوذنا وحضارتنا".
كان تأسيس المدارس وإعداد المعلمين هو الوسيلة المتاحة في القرن التاسع عشر للدول الاستعمارية من أجل التغلغل ونشر النفوذ، وبهذا المعنى كان لهذا الاختراق الثقافي سمتان أساسيتان في التجربة التاريخية الغربية: الأولى: أنه كان يقتصر على النخبة من أبناء الشعب، الذين يتوجّهون إلى مدارس المستعمر أو إلى مدارس الإرساليات التبشيرية التي كانت تتلقى الدعم المادي والحماية المعنوية من قوة الاحتلال المباشر أو من حصانته الدبلوماسية. الثانية: أن هذا الاختراق كان بطيئًا بسبب طبيعة العملية التعليمية نفسها، والتي تحتاج إلى أعوام طويلة لتؤتي أكلها. ولعل هذا الباب الذي دلف منه المستعمرون إلى المجتمع والى إعداد النّخب التي سيتعاملون معها في الإدارة وسيحتاجون إليها في المواقع السياسية والعلمية والجامعية، هو الذي دفع شكيب أرسلان إلى الاستنتاج في كتابه (لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم غيرهم) بأن التعليم هو مفتاح التقدّم أو التخلّف. وكلما طال أمر الاستعمار،كانت آثاره الثقافية اشدّ تمكنًا، ففي التجربة الجزائرية على سبيل المثال، التي ظلّت تحت الاحتلال نحو مائة عام، تمّ ضرب البنية اللغوية والثقافية في هذا البلد،لأن أكثر من جيل نشأ وتربّى في المدارس أثناء الاحتلال، بحيث دخلت الفرنسية في الكثير من مفرداتها إلى لغة الجزائريين العربية، وبحيث أصبحت الفرنسية اللغة الأولى للنخب الجزائرية، ما اضطر الجزائر بعد الاستقلال إلى الاستعانة بمدرسين عرب للمدارس والجامعات للتعليم باللغة العربية... ما الذي تغيّر بين الأمس واليوم هل توقّف الاختراق واستهداف هذه المجتمعات ؟ أم أنه لا يزال على حاله في الأهداف والوسائل، أم أن أهداف الدول الاستعمارية توسّعت ؟ وهل بقيت الأساليب نفسها أم أنها طُوّرت بما يلائم التطوّر العام للعالم ؟ ثمّة ما بقي ثابتًا في هذا الاختراق، وثمة توسّع في الاستهداف وفي السبل والطرائق التي باتت أكثر فاعلية وتأثيرًا. الذي تغيّر أولاً هو قوى الاختراق، والتي تمثّلت سابقًا في فرنسا وبريطانيا، وهي اليوم تتمثّل في الولايات المتحدة الأمريكية، من دون أن يختفي تمامًا دور الدولتين السابقتين، بل انكفأ هذا الدور بانكفاء نفوذهما السياسي في العالم، والذي تغيّر أيضًا هو الثورة في وسائل الاتصال وفي الحصول على مصادر المعلومات التي بات من غير الممكن قراءة تحوّلات أيّ مجتمع من دون البحث في الآثار التي تركتها على اتجاهات الرأي وتعديل السلوك، وتغيير الأفكار والقِيم والمواقف.
وما تغيّر هو الاستقلال الذي حصلت عليه دول العالم العربي والإسلامي منذ أكثر من نصف قرن، وزوال الاحتلال المباشر (باستثناء فلسطين والعودة إليه في العراق). وما تغيّر هو صدور قرارات من الأمم المتحدة تؤكّد على أن المحافظة على اللغة وعلى الدين وعلى الثقافة هي حقّ من حقوق الإنسان. وما تغيّر أيضًا هو انتصار الثورة الإسلامية في إيران وتداعياتها القوية على تعزيز اتجاهات التمسّك بالدين وبالهوية وبالاستقلال، وكذلك ما أعقب تفكك الاتحاد السوفياتي من نمو النزعات القومية واللغوية ثم العمل على صهر أوروبا في هوية واحدة، وهي ما زالت في طور النموّ والتبلور، ولم تصل إلى غايتها النهائية بعد. والى هذه المتغيرات الأخيرة يعود السبب في ظاهرة العودة البارزة إلى الدين والى الهوية الوطنية والقومية، وإلى الاستقلال، هذه الظاهرة التي أصبحت شغل العالم الشاغل منذ الربع الأخير للقرن الماضي إلى اليوم. ومما تغير بالمقابل هو تراجع سيادة الدولة لمصلحة لاعبين أو فاعلين جُدد، هم الأمم المتحدة (وحق التدخّل الإنساني)، والهيئات الدولية المانحة (والشركات الكبرى) والمجتمع المدني، هذا الثلاثي -الذي يعمل من خارج سيادة الدولة وتدخّله المباشر- له دور كبير في حالات وتجارب كثيرة في الاختراق الثقافي والسياسي الذي تشهده المجتمعات العربية والإسلامية. انعكست هذه التعبيرات المعرفية والسياسية والاستراتيجية على أهداف الاختراق ووسائله وجمهوره، كان الأمر في السابق محصورًا ببعثات تعليمية تأتي إلى هذا البلد أو ذاك من بلدان العالم الإسلامي، وتحتمي بالسلطة الاستعمارية أو بالسفارات الأجنبية، فتقوم بجذب الطلاب إلى مدارسها وتعليمهم لغتها وإعداد النخب التي ستحمل أفكارها وثقافتها، أي أن وتيرة الاختراق كانت بطيئة، وتحتاج إلى سنوات لتحقق أهدافها،لكنها كانت شديدة التركيز.
وما تغيّر هنا هو اتساع جمهور المستَهدَفين من دون التخلّي عن اختراق النخبة أو (النواة) فبسبب تطوّر تقنيات الاتصال، لم تعد "الثقافة" المرسلة حكرًا على مجموعة معيّنة منتقاة من المجتمع، بل أصبحت موجّهة إلى الجميع، إلى النساء والرجال، إلى الصغار والكبار، وعلى امتداد ساعات اليوم كلها (يمكن التأمّل في محتوى هذه الثقافة، والتساؤل عن حدود عَدائها المباشر للإسلام أو للدين عمومًا، أو عن ترويجها للإستهلاك وعدم الانتماء..). لم يعد الاختراق أو الغزو حكرًا على بلدان العالم الاسلامي أو خاصًا بها، فما تبثّه وسائل الإعلام وقنواتها الفضائية وما تصنعه السينما يشاهده العالم كله -وليس المسلمون فقط- في وقت واحد، وشكوى الغزو وصلت إلى فرنسا التي رفعت الصوت ضد ما سمته "الغزو الثقافي الأميركي" على الرغم من التفاوت في حجم التهديد الثقافي وطبيعة ما يراه المسلم وما يراه الفرنسي في الفيلم نفسه أو في الإعلان نفسه. يذكر سرج لاتوش، أحد أبرز الكتَّاب الفرنسيين المناهضين للعولمة في كتاب له صدر عام 1989م بعنوان (تغريب العالم)، كيف أكّد له صديق جزائري كان يتجوّل معه عام 1985 في الجزائر قائلا: انظر الشوارع خالية، إنه وقت عرض "دالاس".. يقول لاتوش: عندما رويت هذه الحكاية لطلبة أفارقة أكّدوا لي بكل هدوء: الأمر سيّان هنا.
إن مقولة صِدام الحضارات أو الثقافات كما شاءها البعض أيقظت الاهتمام مجددًا بهذه القضية لدى النخب فقط،وانحصر النقاش والردود على الأطروحة، والدعوات إلى التعايش والحوار في أوساط هذه النّخب دون سواها، لكن ما بعد الحادي عشر من أيلول والمواقف الأميركية من الإسلام والمسلمين، والدعوات الأميركية إلى تغيير البرامج التعليمية في العراق ووجود مستشارة تربوية للتحالف في العراق، وكذلك الضغوط لتغيير مناهج التعليم الديني في أكثر من بلد من البلدان الإسلامية،أو إعادة تأهيل أئمة المساجد (لمنع الإرهاب من النمو).. نقل ذلك كله القلق الثقافي من دوائر النّخب الضيقة إلى جمهور المسلمين الأوسع. ما أريد أن أشدّد عليه في ختام هذه الملاحظات حول التغيّرات التي حصلت بين الأمس واليوم في أهداف الاختراق الثقافي ووسائله، هو الدور الذي يقوم به ما سميناه (اللاعبون الجدد) على حساب سيادة الدولة، أي الأمم المتحدة والهيئات الدولية المانحة (بعضها جزء من الأمم المتحدة)، والمجتمع المدني هذه الهيئات تعمل كثلاثي متكافل ومتضامن.
وعندما نقول المجتمع المدني فإننا نعني تلك الهيئات والجمعيات التي نبتت كالفطر منذ سنوات في أكثر من بلد من بلدان العالم العربي والإسلامي وفي أوروبا الشرقية السابقة، مثل جمعيات الدفاع عن المرأة وحقوق الإنسان، والمواطنة، ومناهضة العنف، ومراقبة الانتخابات ونشر الديمقراطية، والتربية على التسامح ونبذ العنف،.. وغيرها الكثير، ومعظم هذه الجمعيات - ولن نقول كلها- يتلقى تمويلاً من الخارج، ممن؟ من هيئات حكومية وغير حكومية بعضها تابع للأمم المتحدة، وبعضها للإتحاد الأوروبي، وبعضها جمعيات أميركية للتنمية أو للمحافظة على البيئة... وحتى من البنك الدولي. ماذا تفعل تلك الجمعيات بالدعم الذي تتلقاه، والتي لا تستطيع أن تعمل من دونه؟ تنفق قسمًا كبيرًا من هذا الدعم على عقد الندوات والمؤتمرات حول قضايا محددة.
من يحدد هذه القضايا وأولويتها وأهميتها؟ الذي يحدد هذه القضايا هي الجهة المانحة، أي أن الجهة المانحة تنفق المال لعقد ندوات تجذب إليها الباحثين والمثقفين، أو تكلّف هؤلاء بأبحاث وفقًا لتصوراتها هي عن مشاكل مجتمعاتنا، وعن كيفية تغييرها نحو الأفضل من منظورها، فعندما يهتم أحد الباحثين أو أحد مراكز الأبحاث بموضوع الأقليات في العالم الإسلامي، فلأن الجهة المانحة أو الممولة تريد تسليط الضوء على هذه القضية ربما أكثر من قضية الاحتلال أو الفقر على سبيل المثال، وعندما تريد الجهة الدولية المانحة أن تجعل من العنف (عمومًا) أو من العنف ضد المرأة (خصوصًا) مشكلة أساسية -لأنها تراها كذلك في بلادنا، وترى ضرورة مواجهتها أو تغييرها- فإن هيئات المجتمع المدني، تسارع إلى تبني هذه القضية وإلى الدفاع عنها، وسنشهد عشرات الأبحاث الممولة التي ستكشف فجأة أن العنف هو خاصية شرقية أو إسلامية أو هو نتيجة للتخلف أو للاستبداد أو للسلطة الأبوية... إن عنصر الجذب والتمايز في هذه العملية التي سبقت الإشارة إليها هو المعادلة التالية: التمويل- والعمل مع جهة دولية أو أوروبية- والموضوع الذي يدافع عنه، وهو موضوع (جريء) ويتجاوز قضايا التخلف التي "لا يجرؤ أحد على التعرض إليها" (مثل العنف ضد المرأة أو حلّ النزاعات بطرق بناءة...) الاختراق على هذا المستوى لا ينحصر بتبنّي الموضوعات التي تريد الجهة المانحة توجيه الاهتمام إليها، وإهمال موضوعات أخرى قد تكون أكثر إلحاحًا وأهمية من وجهة نظر مجتمعاتنا، بل تكمن الخطوة أيضًا في النتائج التي يفترض أن تتوصل إليها تلك الندوات والمؤتمرات، والتي لا ينبغي لها أن تتعارض مع توجهات الجهة المانحة ورؤيتها السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية لقضية المرأة، أو لقضية العائلة، أو للعنف، أو للنظرة إلى الآخر، أو للتسامح وللدين... وغير ذلك. هكذا تحوّلت كثير من الجمعيات والهيئات إلى واجهات تعرض ما يطلبه "السوق" أي البضائع التي تحقق الربح المباشر.
يشير كتاب (أياد مرئية) الذي صدر عن الاسكوا عام 2002م إلى تمويل المنظمات غير الحكومية قائلا: "إن علة التمويل فرضت على هذه المنظمات إنجاز برامج اجتماعية بغية الحصول على أرصدة مالية"... وينتقد الكتاب "تبعية هذه المنظمات للمانحين الأجانب وميلها إلى تنفيذ سياساتهم"، ويأخذ عليها "التنافس في ما بينها وفي داخلها بحثًا عن الربح والتمويل تحت ستار القضايا الإنسانية والتنموية... أو بحثًا عن وسيلة تتيح بلوغ منصب أعلى..." وتنتقد سيلفي برونيل - التي أمضت سبعة عشر عامًا في العمل الإنساني وكانت مسؤولة عن الأبحاث في منظمة (أطباء بلا حدود)- هذه المنظمات التي "تحوّلت إلى مؤسسات تجارية تعمل على خدمة مصالحها... والتي تطالب الجميع بالشفافية، وتقضي وقتها في إعطاء الدروس للآخرين، وهي بعيدة تمامًا عن تطبيق ما تعلمّّه"، وتضيف برونيل: "هذه البنى أنتجت أصحاب امتيازات لا يتميزون بأي بعد إنساني... وأن لديها انطباعًا قويًا بأن معايير إطلاق المهمات ليس فائدتها بالنسبة إلى الشعوب بل استمرار مقدمي الأموال في تحويلها إلى هذه المنظمات..."([1]).
هذا التسويق الذي تقوم به تلك المنظمات وصل إلى المناهج والبرامج التعليمية الثانوية والجامعية، لتكييفها مع ما يريده السوق، أي مع ما تطلبه "الدول المانحة"، وما تتوقع أن تراه معروضًا... والأمر هنا لا يتعلق بعزم الإدارة الأميركية على تغيير النظام التعليمي في العراق، أو بممارسة الضغوط لإحداث مثل هذا التغيير في المملكة السعودية أو في الباكستان أو في بلدان إسلامية أخرى...
بل في قدرة بعض شبكات المصالح من داخل تلك البلدان من مثقفين وباحثين وما لهم من علاقات مع الهيئات الدولية على تمويل بعض برامج ومناهج التعليم بما ينسجم مع رؤية تلك الهيئات وحاجاتها. (على سبيل المثال من الذي أدخل مفهوم "المجتمع المدني" والمشاركة فيه إلى كتب التنشئة المدنية والتربية الوطنية في المدرسة الرسمية في لبنان؟ بغض النظر عن المفهوم نفسه، أو من الذي كتب عن التقدم والتخلف، وربط التخلف بالدين والتقدم بغيره في كتب علم الاجتماع في المرحلة الثانوية في مدارس لبنان؟ ).
إن ما يجري على هذا الصعيد هو تدخل مباشر للهيئات الدولية التي تقدم الدعم المادي من خلال مجموعات من شبكة المصالح وهيئات المجتمع المدني([2]) لتغيير مناهج التعليم وبرامجه وللترويج لقيم وأفكار محددة، تنسجم مع رؤية تلك الهيئات، ومع توجهاتها الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، أي لإعداد جيل من الناشئة على قيم جديدة مصدرها مجتمع آخر غير المجتمع الذي تنتمي إليه. وما جرى في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في الأردن في نهاية شهر حزيران عام 2003م يؤكّد ما ذهبنا إليه حول تلك التوجهات الثقافية والاجتماعية، فقد تناولت المحادثات إلى جانب الوضعين الاقتصادي والتجاري هموم الشباب والتربية، وتوقف المجتمعون كثيرًا (عند ضرورة وضع خطة لتحويل المجتمع الشرق أوسطي من مجتمع حرب إلى مجتمع سلام، وانعقدت ندوات حول كيفية خلق ثقافة سلام "بدءًا" بالمدارس "مرورًا" بالمناهج التربوية والتعليمية "وصولاً" إلى مشاريع التبادل والاندماج على مستوى الشباب والتلاميذ) ([3]).
ومن المؤكد أن تحويل المجتمع الشرق أوسطي إلى مجتمع سلام وإيجاد الثقافة المناسبة لذلك السلام، والتحضير للتبادل والاندماج، سوف يُوكَل أمره إلى هيئات المجتمع المدني، التي ستكون جاهزة لما يطلب منها في مقابل ما سيدفع لها. والحاصل، أن الحديث يطول عن هذا النمط من الاختراق الثقافي من خلال جمعيات وهيئات ونواد مدنية، ومن خلال بعض مراكز الدراسات، إلا إن ما تغير في قضية الغزو أو الاختراق هو مقدرته على التوسع و تعدد مستوياته، وما سبق وأشرنا إليه هو نموذج أو نمط جديد من أنماط الاختراق غير المباشر التي ازدهرت قبل أكثر من عقد في بلداننا العربية والإسلامية، أما النماذج الأخرى مثل وسائل الإعلام والسينما ومدارس التبشير وإرساليات التعليم فقد كُتب الكثير عما تقوم به، وهي من "ثوابت" الاختراق، ولا حاجة بنا للتفصيل فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] - جريدة النهار 8-5-2002.
[2] - واضح أن المقصود هو هيئات المجتمع المدني التي تتلقى الدعم من الهيئات الدولية والتي تعمل على ترويج أفكار وقيم معينة ، وليس المقصود جميع هيئات المجتمع المدني (التحرير).
[3] - جريدة النهار 26-6-2002 ص12.