إن بناء الحياة الإنسانية قائم على أساس مراعاة الناس بعضهم البعض. فبدون الرعاية والمودة والاهتمام وغيرها من المشاعر الأخرى لا تستقر الحياة البشرية، ولا تقوم لها قائمة. وهذه المشاعر موجودة عند الإنسان بوعيه والتزامه. بينما لا توجد بهذه الصورة في الحيوانات. وإنما تكون بصورة غرائزية. وتتفاوت هذه المشاعر عند الناس من حيث الأهمية والمؤثرية. منها رعاية حقوق الوالدين.
ينبغي على من أنعم الله عليه (وخاصة الشباب) بنعمة وجود الوالدين أو احدهما أن يؤدي حق هذه النعمة وشكرها. ولا بأس أن نذكر في هذا الخصوص الرواية المروية عن الرسول الأكرم (ص) حينما جاءه أحد الأشخاص وسأله: من أبر؟. فللإنسان كثير من الأقارب والأصدقاء والمعارف الذين تجمعه بهم علاقات مختلفة. فإلى من يجب أن يتوجه بالإحسان؟ أجاب الرسول (صلى الله عليه وآله): أمك. فسأله الرجل ثانية: ثم من؟ فقال الرسول (ص): أمك. فسأله الرجل ثالثة: ثم من؟ أجاب الرسول (ص): أمك.
وهذا يعني أن المسافة بين حق الأم وباقي الحقوق واسعة جداً. وعندما سأله الرجل مرة رابعة: يا رسول الله، ثم من؟ قال الرسول: ثم أباك. وهكذا نفهم أن حق الوالد كبير أيضاً، لكن الأولوية دائماً للأم. وأنا أقول لكم أن أداء حقوق الوالدين، وإضافة إلى آثاره الإلهية الأخروية، فإنه يورث بعض التوفيقات المادية والمعنوية والتي لا أقلها حصول السعادة والرضا كأثر طبيعي لهذا العمل.
ذكرى مفيدة من المفيد أن أنقل لكم بعض التجارب الشخصية التي تعتبر مصداقاً لما نقول. إنني كلما كنت أوفّق في مجال ما وأعيد حساباتي، أجد أن كل توفيق وبركة حصلت لي تعود إلى عمل خير عملته مع والديّ. قبل وفاة المرحوم الوالد بحوالي عشرين سنة ــ أي كان له من العمر سبعين سنة ــ ابتلي رحمه الله بمرض في عينيه كاد أن يؤدي إلى فقدانه بصره، وكنت في تلك الفترة أتابع دراستي وسكني في مدينة قم، وبالتدريج علمت من خلال الرسائل التي كان يبعثها لي الوالد أنه لم يعد يرى جيداً.
فقصدت مشهد ووجدته بحاجة إلى طبيب، فراجعنا الطبيب عدة مرات ثم عدت إلى قم لضرورات الدراسة، وفي العطلة عدت إلى مشهد واهتممت بعلاج الوالد، ولكن أي تطور في حالة عينية لم يحصل، فرجعت إلى قم مرة أخرى. في سنة 43 هــ ش [1964م] اضطررت أن آخذه إلى طهران لعدم استفادته من العلاجات في مشهد، ولكننا في طهران أيضاً لم نوفق لعلاج لهما. بالطبع بعد حوالي ثلاث سنوات عولجت إحدى عينيه وبقي يرى بواسطتها إلى آخر عمره، لكن قبل ذلك لم يكن يرى أبداً حتى اننا كنا نأخذ بيديه لينتقل من مكان إلى آخر. وقد أحزنني هذا الأمر كثيراً فهو لم يعد قادراً على المطالعة أو معاشرة الآخرين أو أي عمل آخر. لقد كان ذلك صعباً علي بشكل كبير. كان الوالد يستأنس بوجودي استئناساً خاصاً بالمقارنة مع إخوتي. فهو لم يكن يذهب إلى الطبيب إلاّ معي. كنت أقرأ له الكتب وتناقش المسائل العلمية، حتى شعرت أنني بتركه سيكون إنساناً بلا عمل، وهذا كان ثقيلاً عليه جداً.
المعاملة مع الله في أحد الأيام كنت منزعجاً جداً تساروني الشكوك والأفكار التي ترجّح أن أرجع أبي إلى مشهد وأعود إلى قم. لكن لصعوبة الأمر عليّ ذهبت إلى أحد الأصدقاء، وكان إنساناً عارفاً، واخبرته بما يجري معي وبما أشعر به من آلام وضيق صدر. فأنا من جهة لا أستطيع أن أترك والدي، ومن جهة أخرى أرى أن مستقبلي ودنياي وآخرتي وصلاحهما في قم فقط. عندها تأمّل قليلاً، وقال لي: اترك مدينة قم واذهب وابق في مشهد. أفعل ذلك لأجل الله. فكَرت ووجدت أن كلامه صحيح، فما أحلى أن يتعامل المرء مع ربه. قررت أن أعود إلى مشهد، فالله تبارك وتعالى إذا أراد، يستطيع أن يأتي بدنياي وآخرتي إلى مشهد. عندما اتخذت ذلك القرار انشرح صدري، وفي لحظة انقلبت من حال إلى حال. عدت إلى البيت براحة وسرور وأخبرت الجميع بقراري.
لقد وهبني الله الكثير من التوفيقات إثر ذلك. وعلى أي حال فإنني أعتقد أن ما حصلت عليه من توفيقات في الحياة إنما يعود إلى البِر الذي خصصت والديّ به. ذكرت هذه الحادثة لتنتبهوا لأهمية هذه المسائل عند الله تعالى. حقوق الوالدين بعد الموت الإحسان إلى الوالدين لا يختص بزمان حياتهما، بل إنه يتعداه إلى ما بعد الممات أيضاً. كل إنسان يستطيع أن يحسن إلى والديه ويبرهما.
وقد ورد في الروايات أن البعض ممن يكونون بارين بوالديهم في حياتهم يصبحون عاقين لهم بعد مماتهم، والبعض يصبح باراً بوالديه بعد مماتهم، وقد كان عاقاً لهم من قبل. إن برّ الوالدين بعد مماتهم يكون بالاستغفار والدعاء لهم والتصدق عنهم. هكذا ترضى أرواح الوالدين ويحصلون على بركات بر الأولاد. ينبغي أن تنتبهوا أن تركيزنا على بر الوالدين وأداء حقوقهما لا يعني ترك حقوق الآخرين، فللزوجة حقوق، وللأولاد وللأخوة والجيران حقوق أيضاً. الإنسان العاقل الذكي هو الذي يجمع كل هذه الحقوق ويؤديها للجميع.
آمل أن يوفقكم الله لهذا أنتم وجميع المؤمنين إن شاء الله تعالى.
المصدر: الامام الخامنئي- المواعظ الحسنة