إنّ الحضارة الإنسانية التي وفرت جميع وسائل الملذات والراحة لجسد الإنسان، جعلت بعض الناس يظن أنّ جميع أمراضه عضوية، تصيب هذا الجسد فيعالجه عند الأطباء المهرة للشفاء، بينما لا يدري ما الداء الحقيقي والدواء والشفاء ؟
إنّ الداء الحقيقي هو الذنوب. فضرر الذنوب في الأرواح كضرر السموم في الأبدان، والدواء هو الاستغفار، والشفاء هو أن تتوب فلا تعود إلى الذنوب, موطن هذه الروح.
والحق أنّ أسباب الأمراض العضوية أسباب مادية جلية ظاهرة كسوء التغذية مثلاً , أما الذنوب فهي أسباب خفية للأمراض الروحية التي تكون آثارها المادية المحسوسة أشد فتكاً بالفرد والمجتمع من الأمراض العضوية. وفي هذا المقال لا نتكلم على آثار الذنوب الأُخروية من حيث المعصية ومخالفة الرب الموجبة لاستحقاق العقاب (الذي قد يظن بعض الأفراد انحصار آثارها في هذا المجال، لأنهم لا يرون تأثيرها في الحال) بل من حيث آثارها الدنيوية على الفرد والمجتمع، ومنها :
1. إفساد القلب بحيث يصبح أعلاه أسفله لا يستقر فيه شيء من الحق ولا يؤثر فيه شيء من المواعظ، فيصير خالياً من الحق والمعارف، مظلماً قابلاً لجميع المفاسد. قال الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام : كان أبي عليه الصلاة والسلام يقول : " ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة , إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله" . .
2 - الذنوب أسباب للأسقام والأوجاع لعموم الآية الشريفة " وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ "، ولقول الصادق عليه الصلاة والسلام: "أما أنّه ليس في عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب". .
3- الذنوب أسباب للسطوات والنكبات والمصائب والبليات, فقد روي عن الرسول عليه أفضل التحية والسلام: " ما أصاب رجل من المسلمين نكبة إلا ليغفر الله له الذنوب ” ، وروي عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام : تعوذوا بالله من سطوة الله بالليل والنهار. فسئل عليه الصلاة والسلام : وما سطوات الله؟ قال : الأخذ على المعاصي". فالذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لجهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء وزوال النعم وتحوّل العافية وفجأة النقم فما زالت عن العبد نعمة إلا لسبب الذنوب ولا حلت نقمة إلا بذنب , قال تعالى : " وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" (الشورى:30)، وقال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ " (الأنفال: 53). .
4ا- لذنوب تذهب الرزق ولعل السر في ذلك أنّ الحكمة البالغة اقتضت تطهير المذنب بالمصائب والبلايا, وصرف الرزق عنه من أعظم المصائب لأن الفقر من كاسرات الظهر, قال الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام :” إنّ العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق “، وفي رواية أخرى عليه الصلاة والسلام : ” إنّ الذنب يحرم العبد الرزق “. فالذنوب تؤدي إلى زوال النعم واستحقاق النقم, قال الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام” : إنّ الله قضى قضاء حتماًَ ألاّ ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة“. .
5 -الذنوب تحدث في الأرض أنواعا من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار وتخرب الديار والمساكن, قال تعالى: " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " (الروم: 41). .
6 -الذنوب تؤخر قضاء الحوائج بل تمنع من قضائها تأديباً لينزجر عما فعله المذنب، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه , فإنّ للذنوب تأثيراً في سلب الرحمة الإلهية, وذلك لأنّ الفيض الإلهي لا بخل ولا منع من قبله تعالى وإنما ذلك بحسب عدم استعداد المذنب لهذا الفيض الإلهي من الرحمة في قضاء حوائجه , قال الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام : ” إن العبد يسأل الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء , فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك وتعالى للملك:لا تقض حاجته واحرمه إياها فإنّه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني". .
7 -الذنوب تعدم فلاح الإنسان, والفلاح كلمة جامعة لخير الدنيا والآخرة, وذلك لأنّ الله تعالى خلق قلب المؤمن نورانياً قابلاً للصفات النورانية فإذا أذنب خرج فيه نقطة سوداء وإن زاد في الذنب ازدادت النقطة السوداء حتى تغلب النقاط السود على جميع قلبه فلا يفلح بعدها أبداً لأنّ القلب حينئذٍ لا يقبل شيئاً من الصفات النورانية , قال الصادق عليه الصلاة والسلام : ” إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإنّ تاب انمحت وإنْ زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا “. .
8ا -لذنوب تؤدي إلى وحشة في القلب, ولا يعدمها أي لذة ولو اجتمعت لذات الدنيا بأسرها، وكذلك وحشة بين المذنب وبين الناس ولا سيما أهل الخير, فإنّ المذنب يبعد عن مجالسهم وحرم بركة الانتفاع بهم ؛ بل وحشة تحصل بينه وبين زوجته وأولاده وأقاربه فتراه مستوحشا حتى من نفسه , كما أنّ الذنوب تخرج الغيرة والحياء من قلب المذنب على نفسه وأهله وعموم الناس فلا يستقبح بل يحسن الفواحش والظلم. .
9 -إنّ إحداث الذنوب تؤدي إلى إحداث أنواع جديدة من البلاء, فإنّ الناس إذا اخترعوا في الذنوب وجوهاً لم يكن يعرفها أحد قبلهم كآلات القمار واللهو وغيره مثلا أحدث الله لهم بلاء لم يكونوا يعرفونه كأمراض خطيرة ووسائل للقتل والدمار والسلب والظلم وغيرها , قال الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام : “ كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون “, كما أن الذنوب تزرع أمثالها وتولد بعضها بعضا حتى يعز على الإنسان مفارقتها والخروج منها فإنّ عقوبة السيئة سيئة بعدها,حتى أنّ بعض المذنبين يرتكب الذنب من غير لذة يجدها ولا داعٍ إليه إلا لما يجد من ألم مفارقة الذنب. .
10 -إن الذنوب تقصر العمر وتمحق البركة وتورث الذل وتسقط الجاه والمنزلة عند الناس وتحدث الخوف في القلوب من السلطان ففي الدعاء المأثور: (اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك) ، وقال الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام:” إنّ أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها“. وفي الختام لو لم يكن في ترك الذنوب إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة المال ومحبة الخلق وصلاح المعاش وراحة البدن ونعيم القلب وطيب النفس وانشراح الصدر والأمن وقلة الهم والغم والحزن وعز النفس وصون القلب وتيسير الرزق والثناء الحسن بين الناس وكثرة الدعاء له والمهابة التي يكتسبها وجهه التي تلقى في قلوب الناس وانتصارهم وحميتهم له إذا أوذي وظلم, وذبهم عن عرضه إذا اغتابه مغتاب, وتنافس الناس على خدمته وقضاء حوائجه وخطبتهم لمودته وصحبته لكفى في ذلك لترك الذنوب التي لها من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا ما لا يعلمها إلا الله تعالى.
المصدر:الدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء، بتصرف