المشاكل تسبب العودة الى الله
إنَّ لكل جزء من أجزاء وجودنا هدفاً معيناً؛ فالعين خلقت لهدف، والاذن خلقت لهدف آخر، وكذلك القلب والدّماغ والاعصاب خلقت كل منها لهدف، وحتى بصمات الأصابع في خلقها هدف وحكمة.
إذن، كيف يمكن أنْ يكون كلّ وجودنا بدون هدف وحكمة؟!
كما أنَّ الهدف ليس سوى بلوغ الانسان التكامل من جميع الوجوه، فلا شك أنَّ الوصول الى هذا التكامل يتطلب برامج تعليمية وتربوية عميقة تستغرق كل كيان الانسان. ومن أجل ذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن كونه قد وهب الانسان فطرته التوحيدية الطاهرة، ارسل الانبياء العظام والكتب السماوية للاضطلاع بمهمة قيادة الانسان في مسيرته التكاملية.
في غضون ذلك، يريه الله أحياناً انعكاسات ذنوبه ويواجهه ببعض المشكلات والآلام في حياته، للوصول به الى التكامل عن طريق انكشاف عواقب أعماله القبيحة المشؤومة، فيندم ويعود بتوجهه الى الله. وفي هذه الحالة تكون بعض المشكلات والحوادث المؤلمة رحمة من الله ونعمة. وفي هذا يقول القرآن الكريم: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. [سورة الرّوم، الآية 41]
وبهذا فان نظرتنا الى الحوادث المؤلمة على اساس أنَّها «شرّ وبلاء» وأنَّها تخالف العدالة الالهية، تعتبر نظرة بعيدة كل البعد عن المنطق والدّليل العقلي، إذ إنَّنا كلما ازددنا تعمقاً في هذا الموضوع ازداد أمامنا وضوح ما فيه من حكمة وما وراءه من فلسفة. 5- إقبال الحياة وادبارها والمشكلات تهب الحياة روحاً وحيوية لعل من الصعب على الكثيرين إدراك أنَّ النّعم والعطايا إذا استمرت على وتيرة واحدة تفقد قيمتها وأهميتها.
فلقد ثبت اليوم علمياً إنَّنا إذا وضعنا جسماً في حجرة مدورة ملساء تماماً وسلطنا عليه نوراً قوياً من جميع الجهات لما امكنت رؤية ذلك الجسم؛ لأنّ وجود الظل الممتد من الجسم بسبب الضوء هو الذي يعين لنا أبعاد الجسم ويميزه عمّا يحيط به، وعندئذ نستطيع أنْ نراه.
كذلك هي حال عطاءات الحياة، فلا يمكن رؤيتها بغير الظلال الخفيفة والثقيلة، ولو لا المرض في بعض فترات الحياة لما عرفنا لذّة السّلامة.
إنَّنا على أثر ليلة من الحمى الشديدة والصداع القاتل الاليم، نشعر صباحاً بعد انقطاع الحمى وزوال الصداع باللذة والحلاوة في العافية بحيث إنَّنا كلّما تذكرنا تلك اللّيلة العصيبة أدركنا قيمة السّلامة والعافية عندنا.
إنَّ الحياة نفسها، حتى المسرفة في الرفاهية والرخاء، تكون مملة وعديمة الروح وقاتلة لو أنَّها مضت على وتيرة واحدة.
وكثيراً ما لوحظ أن بعض النّاس يعانون الألم والعذاب بسبب رتابة حياتهم المرفهة الخالية من كل منغص وقلق الى درجة أن بعضهم يقدم على الانتحار، أو لا يكف عن الشكوى من حياته. إنّك لن تجد مهندساً معمارياً يملك ذوقاً يبني جدران غرفة الاستقبال رتيبة مسطحة مثلما يبنى جدران السجن، بل أنَّه يضيف عليها من الانعطافات والانحناءات المناسبة ليخرجها من الرتابة.
لماذا يتميز عالم الطبيعة بكل هذا الجمال؟
لماذا تثير فينا الغابات على سفوح الجبال، والانهار المنسابة بين الاشجار وهي تلتوي في المنعطفات كالأفعى، هذا الشعور بالبهجة؟
إنَّ أحد الأجوبة هو: أنَّها ليست رتيبة.
إنَّ من أهم آثار نظام «النّور» و«الظّلام»، وتعاقب الليل والنهار الذي يشير اليه القرآن في عدد من آياته، كسر رتابة الحياة الانسانية، إذ لو ظلّت الشّمس تطلع من مكان واحد في السماء على الكرة الأرضية،
بغير أنْ تغير موضعاً ولا أنْ تترك مكانها الى الليل لكي يسدل أستاره، ويصرف النظر عن المشكلات الاخرى، لانتاب البشر التعب والملل. فعلى هذا الاعتبار لا مندوحة لنا من الاعتراف بأنَّ قسماً، على الاقل- من حوادث الحياة المؤلمة لها تأثيرها في اضفاء الحيوية على الحياة، فتجعلها حلوة يمكن تحملها، وتبرز نعمها وقيمها، وتتيح للإنسان الفرصة لكي يستفيد ممّا وهبه الله بأقصى ما يستطيع.
سلسلة دروس في العقائد الإسلامية، الشيخ ناصر مكارم شيرازي، ج1، ص:79 - 96، عن موقع مكتبة مدرسة الفقاهة