السيد محمد حسين الطباطبائي المعروف بـالعلامة الطباطبائي (قدس سره الشريف)
ولد قدَّس سرَّه في مدينة «تبريز » : في التاسع و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام من شهور عام 1321، و عاش 80 ثمانين سنة و18 ثمانية عشر يوماً ، وخلّف تراثاً علمياً ضخماً ، وربّى جيلاً كبيراً من المفكرين أوجد من خلالها تحولات عظيمة في العلوم الإسلامية ، ولقي ربّه بنفس مطمئنة يوم الأحد 18 الثامن عشر من محرم الحرام عام 1402هـ ، ووُرِيَ جثمانه الطاهر في حرم السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم عليهما السَّلام ،
تجد صخرة قبره إلى جنب قبر السيد النقي الورع السيد أحمد الخونساري ـ قدّس اللّه سرّهما ـ فاقترن الكوكبان في مضجعهما ، كما كان بينهما أُلفة في حال حياتهما.
نشأ الأُستاذ وترعرع :
في أُسرة عريقة بالعلم والثقافة ، ولها تاريخ وضّاح ، يتصل نسبه إلى السيد الجليل مير عبد الوهاب الذي تقلَّد منصب « شيخ الإسلام» في أذربيجان قبل ظهور السلسلة الصفوية ، ولما اشتعل فتيل الحرب بين الدولتين : الصفوية ، والعثمانية، قام السيد بمساعي جميلة بغية إطفاء نيران الحرب و استتباب الأمن والاستقرار بين البلدين الشقيقين ، فغادر إيران عام 920 هـ لهذا الغرض ، وهبط آستانة حاضرة الدولة العثمانية إلاّ أنّ محاولته باءت بالفشل فزُجَّ به في السجن وبقي فيه ، إلى أن مضى السلطان سليم ، و قام مقامه ابنه السلطان سليمان ، فأطلق سراحه وعامله بتكريم وتبجيل إلى أن وافته المنية عام 927هـ ، ودفن في جوار الصحابي الكبير «أبي أيّوب الاَنصاري» في آستانة .
حياة السيد الطباطبائي في بداية تحصيله بقلم نفسه :
نشأ السيد الطباطبائي : في حضن أبويه حتى وافتهما المنيّةُ ولم يتجاوز عمر السيد آنذاك 9 تسع سنين . وبعث إلى المدرسة : وتعلم فيها القرآن والأدب الفارسي والرياضيات ، فتهيأ إلى دخول الجامعة الإسلامية في مدينة تبريز ، وقرأ فيها الصرف والنحو والمعاني والبيان والفقه و الاُصول والكلام ولم يترك شيئاً من العلوم الرائجة يومذاك إلاّ وقد انتهل منها ، حتى درس الخط واستغرق جميع ما درسه من الآداب والسطوح العالية 9 تسع سنين ، ونال منها حظاً عظيماً.
وثمّة نكتة جديرة بالذكر : وهي أنّ الأستاذ كتب رسالة موجزة في حياته .
نقتبس منها فيما يرجع إلى تلك الحقبة من حياته. يقول :
كنت في بداية دراستي غير راغب في الاستمرار فيها ، وكنت على هذا الحال سنين أربع إلى أن شملتني العناية الإلهيّة وأوجدت تحولاً جذرياً في نفسي ، وأحسست بشوق منقطع النظير إلى الاستمرار فيها وعوّلت على استسهال الصعب . فأكببت على الدرس : بعزم راسخ ونسيت كلّ شيء سواه ، واقتصرت من الدنيا باليسير ، وسهرت الليالي منكبَّاً على المطالعة والدراسة ، وكنت أُحضِّر المادة الدراسية قبل حضوري مجلس الدرس وأستوعبُ أكثر ما يلقيه الأُستاذ فيه، وكان جلّ سعي هو فهم المطالب وحل المشاكل العلمية التي أواجهها بالإمعان والمطالعة دون أن استفسر عنها.
وقد مشى الأُستاذ على هذا المنوال : إلى أن غادر مسقط رأسه إلى النجف الأشرف عام 1344 هـ بغية إكمال دراساته العليا ، فأخذ يختلف أندية الدروس العالية لأساتذة الوقت في الفقه والأصول أعني السيد أبو الحسن الأصفهاني (1284ـ 1365هـ) والشيخ محمد حسين النائيني (1274ـ 1355هـ) والشيخ محمد حسين الأصفهاني (1296ـ 1361هـ) الذي نالت دروسه درجة كبيرة من الأهمية عند السيد الطباطبائي، فكان يُثني عليه كثيراً ويسير على نهجه في أُصول الفقه.
وأمّا أساتذته في العلوم العقلية : فقد حضر درس العرفان عند السيد علي القاضي ، كما حضر دروس الفيلسوف الكبير السيد حسين البادكوبي (1293ـ 1358هـ) الذي هو من تلاميذ السيد أبو الحسن المعروف بـ«جلوة» (1238ـ 1314هـ) وكان المترجم له يُثني كثيراً على أُستاذه البادكوبي ويذكره في المجالس والمحافل العلمية.
ويقول في رسالته :
وقد حضرت دروس الحكيم البارع السيد حسين البادكوبي ست سنوات وقرأت عليه شرح «المنظومة» للسبزواري، و«الأسفار» لصدر المتألهين الشيرازي و«المشاعر» له أيضاً، وكتاب «الشفاء» لابن سينا، وكتاب «اثولوجيا» لاَرسطو، و «تمهيد القواعد» لابن تركة، و «طهارة الأعراق»لابن مسكويه .
وأضاف في رسالته :
إنّ السيد البادكوبي كانت له عناية خاصة بتعليمي وتربيتي ، و كان يصرَّ على تعلم الرياضيات العالية حتى أقف على كيفية إقامة البرهان على المسائل الفلسفية ، ولأجل ذلك حضرت دروس الرياضي الكبير السيد أبو القاسم الخونساري ، فقرأت عليه دورة كاملة في الحساب والهندسة المسطحة والفضائية والجبر الاستدلالي.
وعلى الرغم من انّ السيد الطباطبائي : كان مكبَّاً على العلم والتعلم ، لكنّه لم ينس أبداً تهذيب النفس وتحليتها بالفضائل وتخليتها عن الرذائل ، وقد اقتدى في ذلك بأُستاذه العظيم السيد علي القاضي (1285ـ 1365هـ) ، الذي بلغ في تهذيب النفس مقاماً شامخاً حتى صار صاحب كرامات.
مغادرة الأُستاذ النجف الأشرف إلى موطنه شادباد ظلّ الأُستاذ (السيد الطباطبائي ) :
في جامعة النجف الأشرف أحد عشر عاماً ، غير أنّ تدهور الأوضاع الاقتصادية ألجأته إلى مغادرة النجف .
وأقفل عائداً : إلى تبريز مسقط رأسه ، وكان المترقب أن يشتغل بنشر المعارف و تعليم جيله ، لكن الأوضاع السياسية السائدة آنذاك عاقته عن نيل تلك الأمنية ، فألقى الرحل في قرية من قرى تبريز تُعرف بقرية «شادباد» ، و اشتغل فيها بالفلاحة لسدّ حاجته المادية ودام هذا الوضع عشر سنين،
ويصف فيها تلك الفترة عن مضض ويقول:
إنّ تلك الفترة من عمري : كانت خسارة جسيمة لي ، فقد اضطررت إلى الاشتغال بالفلاحة لسدّ عيلتي، وكانت تأخذ مني قسطاً وافراً من الوقت.
ومهما يكن من أمر : فقد ألف في تلك الفترة رسائل عرفانية وفلسفية ، منها : «الاِنسان قبل الدنيا» و «الاِنسان في الدنيا» و «الاِنسان بعد الدنيا» و الرسائل الاَربع، و غيرها من الرسائل .
وطالع : عامة أجزاء بحار الأنوار، إلاّ الأجزاء الستة التي ترجع إلى الفقه ، و لم يغفل عن تهذيب النفس وسلوك مدارج الكمال ، لاسيما انّه كان منقطعاً عن معاشرة الناس شاغلاً بنفسه عن غيره. كانت حياته : تسير على ذلك المنوال إلى أن فُوجىَ باضطراب الأوضاع السياسية في أذربيجان ، عقب استيلاء جيوش الحلفاء على إيران وجيوش الروس على أذربيجان ، فلم ير بُدّاً من ترك مسقط رأسه متوجهاً إلى قم المقدسة وذلك عام 1364 .
وقد استخار اللّه تبارك و تعالى : في هذه الهجرة . وفتح القرآن فإذا بهذه الآية : { هنالِكَ الْولايَةُ للّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْر ثَواباً وَخَيْر عُقُباً (44) } الكهف .
في قم : وظل يعيش : تحت ولايته سبحانه ، في مهبط العلم (قم) ما يقرب عن 35 سنة ، وتخرج على يده جيل كبير من أكابر الحوزة وعلمائها وهم بين مفسّر لكتاب اللّه العزيز، وحكيم يشقِّق القواعد الفلسفية بحذاقته، وأخلاقي يعد أُسوة في المجتمع، و أُصولي له باع طويل إلى غير ذلك من البركات التي عمّت الحوزة عقب مجيئه.
المصدر:موقع قناة الكوثر