الشيخ محمد مصباح يزدي
ذكرنا أنّ إحدى القيم الساميّة في الثقافة الإسلاميّة وأهمّ عوامل التقرّب إلى الله تعالى وفق الآيات والروايات والأدلّة العقليّة هي المحبّة. لكنّ مثل هذا الموضوع لا يُولَى في محافلنا العلميّة والثقافيّة والأخلاقيّة ما يستحقّه من الأهمّية، بل إنّ ثلّة من الناس، وباللجوء إلى تأويلات معيّنة، وعلى الرغم من أنّ دلالة بعض الآيات لا تذر أيّ فسحة للتأويل والتبرير، يتصوّرون أنّ نسبةَ المحبّة إلى الله هي نسبة مجازيّة.
في حين أنّ الباري عزّ وجلّ، من باب المثال، يقول في آية ترتبط بحياتنا المعاصرة ارتباطاً وثيقاً: «يَـٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه»[1]؛ فالله عزّ وجلّ يحذّر في مقام الاستغناء قائلاً: نحن لسنا بحاجة لكم، ولا تتصوّروا أنّكم بإيمانكم تمُنّون على الله.
وحتّى إن ارتَدَدتم عن دينكم، فإنّكم لن تضرّوا الله شيئاً، بل إنّه سبحانه سيأتي بقوم يحبّهم ويحبّونه. وهذه الآية تدلّ بصراحة على الحبّ المتبادل بين الله وبعض عباده، وتأبى التأويلات الواردة في هذا الباب. ولا تختصّ هذه الآية بالدلالة المذكورة، بل إنّ عشرات غيرها من الآيات، التي تنسب محبّة الله تعالى للصابرين، والصالحين، والتائبين، ...الخ،
تشير إلى عين هذا المعنى.
محبّة الله من وجهة نظر الروايات
لقد وردت أحاديث كثيرة في محبّة الله، من جملتها الحديث التالي: «المُحبّ أخلصُ الناس سرّاً لله»؛ أي إنّ الذي يحبّ الله يخلص باطنَه بشكل كامل له عزّ وجلّ، ويخصّص أعماق قلبه له، ولا يدع محلاًّ لأيّ أحد غيره في قلبه.
«وأصدقُهم قولاً»؛ فكلّ المؤمنين يتحدّثون عن محبّة الله وطاعته، والخشية من عذاب الله وسخطه، لكنّ ادّعاءاتهم تلك لا تترجَم في ميدان العمل، أمّا المحبّ لله فهو صادق في ادّعائه. «وأوفاهُم عهداً»؛ أي أوفى الناس في عهده مع الله تعالى. يقول عزّ من قائل: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللهَ عَلَيْهِ»[2]؛ فجميع المؤمنين يعاهدون الله على امتثال أوامره ومجانبة أعدائه، لكنّ الذين يوفون بعهدهم ويصدقون فيه قلّة.
«وأزكاهُم عملاً»؛ فعملهم أطهر وأنظف من الجميع. «وأصفاهُم ذكراً» أي إنّ ذكرَه لله تعالى أنقى وأقلّ رتوشاً من ذكرِ غيره له عزّ وجلّ. «وأعبَدُهُم نفساً» فهو يقف كلّ كيانه على عبوديّة الله ولا ينفق ذرّة من وجوده في غير ذلك. «تتباهى الملائكةُ عند مناجاته وتفتخر برؤيته»؛ وهذا من آثار هذه المحبّة. «وبه يعمُر الله تعالى بلادَه وبكرامته يُكْرِم الله عباده»؛ فالله جل وعلا يعمر البلدان والمدن بوجود مثل هذا المرء ويُكرِم باقي الناس بواسطة ما يَكُنّ له من احترام ويقيم له من وزن.
«يعطيهم إذا سألوه بحقّه ويدفع عنهم البلايا برحمته»؛ فإن سأل الناسُ اللهَ شيئاً بحقّ هذا الإنسان، أعطاهم ما يطلبون، وهو عزّ وجلّ يدفع عنهم البلايا بما يُغدق عليه من رحمة. «ولو علم الخلقُ ما محلّه عند الله ومنزلته لديه ما تقرّبوا إلى الله إلاّ بتراب قدمَيه»[3].
ضرورة البحث في موضوع المحبّة
على الرغم من الأهمّية البالغة التي تتميّز بها محبّة الله في أقوال أهل البيت (عليهم السلام) فإنّنا قلّما نتطرّق إلى هذا الموضوع أو نفكّر فيه.
وإنّ من آفات هذه الظاهرة هو جعل محبّة الله في مقابل محبّة أهل البيت (عليهم السلام) وعدم الاهتمام بالأولى، وهذا من علامات ضعف الإدراك وضحالة المعرفة. فالحقيقة، على أيّة حال، هي أنّ الثقافة الدينيّة في مجتمعنا لم تنْمُ وتنضج كما ينبغي لتشقّ هذه المعارف طريقها في الأمّة بقوّة وتغذّي أفئدة شباب هذا الجيل النقيّة بهذه الحقائق كي تصل إلى درجة رفيعة من التكامل. وفي واقع الأمر فإنّ تقصيرنا في مضمار اكتساب محبّة الله يعود إلى ضحالة معرفتنا.
لذا نرى من المناسب أن نتحدّث بعض الشيء عن حقيقة المحبّة، وكيفيّة ظهورها، وما يطرأ عليها من شدّة وضعف.
وحيث إنّ قضيّة الحبّ هي أمر يحتكّ الناس به ويتداولونه يوميّاً عشرات المرّات، ويدركون مصاديقه بالنسبة لأنفسهم وعوائلهم وأصدقائهم وما إلى ذلك حضوريّاً، فقد يبدو - للوهلة الأولى - أنّ المحبّة ليست بحاجة إلى تعريف. لكن مع قليل من التمعّن نجد أنّ معرفتنا بهذه المسائل محاطة بالإبهامات ونحن لا نملك تعريفاً واضحاً لها، بل وإنّنا كثيراً ما نخطئ في هذا المجال.
آثار الحبّ
اعتماداً على الأسلوب المتّبَع في علم المنطق في تعريف مفهومٍ ما، حيث يتمّ أوّلاً تحديد خصوصيّاته ومحمولات مصاديقه، ثمّ يصار ثانياً، وعن طريق استقصاء الصفات العارضة عليه وبالإفادة من ذاتيّاته، إلى تشخيص ذلك المفهوم ثمّ نقوم بصياغة تعريف له من خلال ترك الصفات العارضة والاعتماد على ذاتيّاته، فمن المستحسن أن نبدأ في تعريفنا للمحبّة من المصاديق التي نلمسها نحن حضوراً ووجداناً.
ونستهلّ بحثنا بمصداق بسيط يُعدّ أفضل وأطهر مصاديق المحبّة، ألا وهو حبّ الأمّ لأولادها.
فإنّ من آثار محبّة الأمّ لولدها هو اهتمامها به اهتماماً بالغاً. فالمرء إذا لم يحبّ شيئاً فإنّه لا يلتفت إليه، وسيتساوى عنده وجوده وعدمه، أمّا إذا أحبّه فإنّه سيهتمّ به بدايةً، وسيزداد اهتمامه به كلّما نَمَت محبّته له. ومن آثار المحبّة الأخرى هي رغبة الحبيب المستمرّة في البقاء إلى جانب محبوبه، وهي الرغبة التي تتجلّى في شوق الأمّ إلى احتضان ولدها، وضمّه إلى صدرها، وتقبيله.
كما أنّ من الآثار الأخرى التذاذ المرء وإحساسه بالطمأنينة جرّاء اهتمامه وتعلّقه بحبيبه؛ فالأمّ عندما تضمّ طفلها تشعر بالطمأنينة والدفء، وما إن تنفصل عنه حتّى يساورها القلق.
محبّة؛ أم لذّة؟!
ما ذكرناه في الأمثلة آنفاً عن آثار المحبّة يرتبط بالحبّ بين موجودين. لكن أيمكن القول: إنّ المرء يحبّ نفسه؟ فقد نقول في حواراتنا المتعارفة: إنّني أحبّ نفسي. كما ويقال في البحوث العقليّة: إنّ أكثر ألوان المحبّة أصالة في الإنسان هو حبّ الذات. وهذه البحوث تمتدّ وتتوسّع كثيراً حتّى تصل في النهاية إلى مواطن دقيقة تثير الكثير من السؤالات والاستفسارات، من قبيل: لماذا نحن نحبّ الله؟ هل نحن نحبّه من باب أنّه يمنّ علينا بالنعم التي نحبّها ونلتذّ بها؟ فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ ما نحبّه أصالةً هو لذّتنا. ولعلّنا نستطيع – إلى حدّ ما - الحديث عن هذا الضرب من المحبّة فيما يتّصل بالله أيضاً، بل إنّ هناك من الأحاديث الشريفة ما يؤيّد هذا الزعم. وقد أكون كرّرتُ هذه الرواية على مسامعكم مراراً في نفس هذا المجلس، وهي أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيّه موسى (عليه السلام) فقال: «حبِّبني إلى خلقي وحبّب خلقي إليّ. قال: يا ربّ كيف أفعل؟ قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبّوني»[4]، فإنّني قد أودعت في بني آدم فطرةَ حبِّ مَن أحسن إليهم، فإنْ هم علموا مقدار إحساني لهم ونعمائي عليهم لأحبّوني. ــــــــــــــ
[1]. سورة المائدة، الآية 54.
[2]. سورة الأحزاب، الآية 23.
[3]. مصباح الشريعة، ص192.
[4]. بحار الأنوار، ج2، ص4.