لقد برزت شخصيّة السيّدة زينب عليها السلام في التاريخ من خلال واقعة كربلاء، حيث دفع هذا الحدث المهيب بالسيّدة زينب عليها السلام إلى واجهة التاريخ من خلال حضورها في مقدّمة الأحداث. وأن يبرز إنسان في هذه اللحظة المثاليّة، والتاريخيّة، والصعبة، بمواقف جريئة وشجاعة، فهذا يدفعنا إلى البحث عن بيئته، وتربيته، وخلفيّاته. ففي أيّ بيئة نشأت السيّدة زينب عليها السلام؟ وبمَ تميّزت شخصيّتها عليها السلام؟
•بيت العلم والعبادة
قبل أن نبدأ في الحديث عن هذه السيّدة الجليلة عليها السلام، لا بدّ في البداية من التعريف بها. الاسم: زينب، اسم الأب: عليّ بن أبي طالب، اسم الأمّ: فاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، الجدّ للأمّ: محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، الجدّة من جهة الأمّ: أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد عليه السلام، الجدّ للأب: أبو طالب عليه السلام، الجدّة من جهة الأب: فاطمة بنت أسد (رضوان الله عليها).
من هذه العائلة، وفي هذه العائلة ولدت السيّدة زينب عليها السلام. فإذا كان الإنسان هو حصيلة ونتاج عاملَي الوراثة والتربية، مضافاً إلى الجهد الشخصيّ، فلنا أن نعرف أنَّ لزينب عليها السلام هؤلاء الآباء والأمّهات والأجداد والجدّات، وأنَّها نشأت في هذا البيت، بيت النبوّة، وبيت الإمامة، وبيت العلم، والعبادة، والزهد، والتقوى. •تاريخ الولادة قيل إنّ السيّدة زينب عليها السلام ولدت عام ستة للهجرة، وقيل عام خمسة للهجرة، وعن شهر ولادتها، قيل إنّها ولدت في شهر جمادى الأولى، وقيل في شهر شعبان. وفي كِلا القولَين، يمكن تسجيل ملاحظتين سريعتين:
1- يفصلها عن الإمام الحسين عليه السلام من حيث الولادة عامٌ أو عامان. وكلّنا يعلم أنّه عندما يكون الأولاد متقاربين في تاريخ الولادة؛ أي عندما يفصل بينهم نحو عام أو عامين، فإنّهم يلعبون مع بعضهم بعضاً، وينمون ويكبرون معاً، فتصبح العلاقة العاطفيّة والأخويّة بينهم أقوى وأشدّ.
2- إذا بنينا على القول الثاني، الذي يقول إنَّ السيّدة زينب عليها السلام ولدت في شعبان، هنا تنشأ لفتة جميلة، وهي أنَّ الشخصيات المركزيّة الأربعة في حادثة كربلاء، في جزأيها الأوّل والثاني، ولدوا في شهر شعبان، طبعاً في سنوات مختلفة؛ وهم الحسين، والعباس، وزين العابدين، وزينب عليهم السلام.
•الصبر والاحتساب
منذ الطفولة عاشت السيّدة زينب عليها السلام مع جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أمّها الزهراء عليها السلام خمس سنوات. وبدأت منذ الطفولة وبشكلٍ مبكّر رحلة الابتلاء ومواجهة الابتلاء بالصبر، حيث فقدَت عليها السلام جدّها، وأيُّ جدّ! رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفقدت أمّها، وأيّ أمّ! فأصبحت يتيمة الأمّ. قطعاً، هذا الحدث ترك أثراً قويّاً في وجدان السيّدة زينب عليها السلام، وفي وعيها، وعاطفتها، وقلبها، ونفسها، وروحها، خصوصاً وأنّ فقدان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هزّ المسلمين، وكان أكبر فاجعة في تاريخهم، وكذلك شهادة أمّها الزهراء عليها السلام، فتعلّمت الصبر، والاحتساب، والتوكّل على الله سبحانه وتعالى منذ الصغر.
•المدينة المنوّرة: م
حور حياتها منذ ولادتها، عاشت السيّدة زينب عليها السلام في المدينة المنوّرة، وبقيت فيها إلى سنة 35 للهجرة، عندما تولّى الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام مسؤوليّة الخلافة. وإثر الأحداث التي حصلت وخروجه إلى العراق وإلى الكوفة، خرج معه عبد الله بن جعفر، زوجها، فخرجت السيّدة زينب وأولادها وعائلتها مع عبد الله بن جعفر ومع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الكوفة، وبقيت في الكوفة أقلّ من خمس سنوات، وهي فترة ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وخلافته، وعدّة أشهر مع الإمام الحسن إلى صلح الحسن عليه السلام. وبعد الصلح، عادت العائلة الشريفة كلّها إلى المدينة المنوّرة، وكان ذلك سنة 40 للهجرة، وبقيت في المدينة 20 سنة، فعاشت بقيّة حياتها فيها إلى سنة 60 للهجرة، حيث عرجت من بعدها مع الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وكانت رحلة السبي التي عادت منها إلى المدينة مجدّداً.
•الوفاة والدفن
عندما عادت إلى المدينة، لم تبقَ السيّدة زينب عليها السلام على قيد الحياة طويلاً، وكأنّها حُضّرت وأُهّلت لكربلاء لأداء هذه المهمّة التاريخيّة الإلهيّة العظيمة، وبعد إنجاز هذه المهمّة دفع بها الشوق إلى اللحاق بالأحبّة كلّهم. وفي الحديث عن تاريخ وفاتها، توجد أقوال:
1- إنَّ السيدة زينب عليها السلام توفّيت بعد عودتها إلى المدينة بثمانين يوماً؛ أي سنة 61 للهجرة، ودُفنت في البقيع في جوار أخيها الإمام الحسن عليه السلام. وهو قول ضعيف
. 2- إنّ السيّدة زينب عليها السلام كان لها نشاط كبير جدّاً في المدينة بعد عودتها من السبي، ونشاطها لم يقتصر على التواصل مع النساء، بل مع أهل المدينة كلّهم، رجالاً ونساءً؛ تحدّثهم، تذكر لهم مصائب كربلاء، تحرّضهم، تثير فيهم المسؤوليّة الشرعيّة والحميّة والغيرة والشهامة، حتّى دفع الموضوع بوالي يزيد على المدينة، وكان اسمه عمرو بن سُعيد الأشدق، أن كتب ليزيد كتاباً أخبره فيه أنَّ وجودها عليها السلام بين أهل المدينة مهيّجٌ للخواطر، فكتب إليه يزيد: "فرّق بينها وبين أهل المدينة"، فما كان من الوالي إلّا أن طلب إلى زوجها عبد الله بن جعفر أن تخرج من المدينة. ورغم الاعتراضات الشديدة والجدال الطويل،
أُرغمت السيّدة زينب عليها السلام على مغادرة المدينة. انطلاقاً من هذه الفكرة، ثمّة مَن يذهب إلى أنّ السيّدة زينب عليها السلام بعد خروجها من المدينة، انتقلت إلى مصر، وأقامت عند إحدى الشخصيّات المحبّة لأهل البيت عليهم السلام، وبقيت في بيته أشهراً عدّة إلى أن توفّيت هناك، ودُفنت في ذلك البيت، فأصبح ضريحَها ومقامَها المشهور في القاهرة في مصر. 3- بعد خروجها عليها السلام من المدينة، اتّفق معها زوجها عبد الله بن جعفر، ومع العائلة، على الذهاب إلى محيط دمشق، حيث كان يملك قرى وبلدات صغيرة ومزارع هناك؛ لأنّه كان من الأغنياء الكبار. فانتقلوا إلى بلدة "راوية"، وهو الاسم التاريخيّ لبلدة السيّدة زينب عليها السلام حاليّاً، فعاشت هناك أشهراً عدّة إلى أن توفّيت ودُفنت في ذلك المكان الذي أصبح ضريحاً ومقاماً لها.
وعلى الرغم من الآراء والأقوال المتعدّدة، يبقى الأمر الجدّيّ يدور بين دمشق والقاهرة. ولعلّه من لطف الله سبحانه وتعالى وكرمه على عباده وعلى الناس أن يكون للسيّدة زينب عليها السلام ضريحان ومقامان يلوذ بهما محبّو أهل البيت عليهم السلام في بلاد الشام وفي شمال أفريقيا ومن أنحاء العالم كلّه.
•السيّدة العالمة
كانت السيّدة زينب عليها السلام عالمة، من كبار العلماء في المدينة، وكان مشهوداً لها بذلك، وتُعدّ أيضاً من رواة الأحاديث، وقد روت العديد من الأحاديث عن أمّها الزهراء عليها السلام وعن جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولمّا كان عمرها خمس سنوات، ذهبت مع أمّها الزهراء عليها السلام إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، وألقت الزهراء عليها السلام تلك الخطبة البليغة، المتينة، المسبوكة، القويّة، فحفظتها السيّدة زينب عليها السلام ابنة السنوات الخمس، وكانت ترويها عن حفظ.
•السيّدة زينب عليها السلام
كانت عليها السلام تقيم في المدينة مجالس تعليم الفقه، والتفسير، والعلوم الإسلاميّة المختلفة، وكذلك في الكوفة، فهي كانت صاحبة نشاط علميّ، وكانت تمثّل مرجعيّة علميّة ودينيّة واجتماعيّة لنساء المدينة، ولنساء الكوفة، وللمسلمات الآتيات من الخارج. •في قلب الأحداث إنّ هذه التطوّرات والوقائع كلّها في حياة السيّدة زينب عليها السلام، جعلتها تملك من التجارب، والخبرة، ومعايشة الأحداث عن قُرب، ما يكفي لبناء شخصيّة تتمتّع بمميّزات نادرة وطاقة هائلة على الصبر، والتحمّل، والجلد، والتماسك في كربلاء.
من كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة العاشرة من محرم الحرام 1441هـ/ الموافق 9/9/2019م.