أهل السلوك والتزوّد بالنعم الإلهية الباطنية
مايكون لذيذاً ومتناسباً مع حواسّ الإنسان الظاهريّة أو الباطنيّة وقواه الإدراكيّة أو الحركيّة يسمّىٰ «نِعمة». والقرآن يعدّ جميع النِعَم من الله سبحانه: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه﴾[1] ويقول بأنّها فوق العدّ والإحصاء: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهاَ﴾.[2]
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «لايُحصي نَعماءه العادّون».[3] والنِعَم بعضها ظاهريّ وبعضها الآخر معنويّ وباطنيّ: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة﴾[4] والنعمة المطلوبة في سورة الحمد طبقاً للأدلّة والشواهد القرآنيّة ليست نعمة ظاهريّة وإنّما هي نعمة باطنيّة، وهي الّتي بالتنعّمِ بها أصبح السالكون من أصحاب الصراط السويِّ والمستقيم، وراحوا يتحرّكون بسهولة علىٰ الصراط الّذي هو أدقّ من الشَعرة وأحدُّ من السيف، لأنّ اجتياز مثل هذا الطريق ليس هيّناً علىٰ أحد دون تزوّده بالنعمة الإلٰهيّة الباطنيّة.
وهذه الأدلّة علىٰ نحو الإختصار مايلي:
1. القرآن الكريم من جهة يعدّ النِعَم الظاهريّة كالمال والبنين زينة الحياة الدنيا: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْياَ﴾[5] ومن جهة اُخرىٰ يحصر فائدتها ونفعها في الحياة الدنيا: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون﴾.[6] وبالجمع بين الآيتين يظهر أنّ زاد السلوك وعامل وصول السالكين نحو لقاء الحقّ هو النِعَم الإلٰهيّة الباطنيّة.
2. المتنعّمون بالنعم الباطنيّة هم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون، وأغلب هؤلاء لم يتمتّع بالنعم الظاهريّة.
3. أنّ التمتّع بالنعم الظاهريّة هو السبب في بعض الأحيان للوقوف في وجه المنعَم عليهم، ومن هنا فقد أمسوا من جملة المغضوب عليهم ومن الضالّين. فالقرآن الكريم يعدّ السرَّ في طغيان جماعة من الكفّار هو تمتّعهم بالأموال والبنين: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ٭ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين﴾.[7]
كذلك يقول للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيل﴾.[8] ويقول أيضاً إنّ النعمة تؤدّي بالإنسان إلىٰ الإعراض والاستكبار: ﴿إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأىٰ بِجَانِبِه﴾.[9] ومع انّ بني اسرائيل قد أغدق الله عليهم نعماً كثيرة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم﴾[10] ولكنّهم اذلاّء ومغضوب عليهم: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه﴾.[11]
وحول بعض المهلكين يقول انّهم كانوا يمتلكون النعم الوفيرة: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ ٭ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٭ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ٭ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين﴾.[12] وعليه فإنّ النعم المادّية الّتي ينشغل الإنسان بها، امّا فتنة وابتلاء (وسيلة للاختبار) أو عذاب إلٰهيّ وبالنتيجة فهي عقبة ومانع في طريق الوصول إلىٰ الله وليست عوناً وزاداً ووسيلة للسلوك إلىٰ الله. ويتّضح من الشواهد السابقة انّ المقصود من (أنعمت عليهم) هو النعم المعنويّة والباطنيّة الّتي اُعطيت للأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين وبيّنها القرآن الكريم في مواضع عديدة.
آية الله الشيخ جوادي آملي
[1] . سورة النحل، الآية 53.
[2] . سورة النحل، الآية 18.
[3] . نهج البلاغة، الخطبة 1، المقطع 1.
[4] . سورة لقمان، الآية 20.
[5] . سورة الكهف، الآية 46.
[6] . سورة الشعراء، الآية 88.
[7] . سورة القلم، الآيتان 14 ـ 15.
[8] . سورة المزمّل، الآية 11.
[9] . سورة الاسراء، الآية 83.
[10] . سورة البقرة، الآية 40.
[11] . سورة البقرة، الآية 61.
[12] . سورة الدخان، الآيات 24 ـ 27.