على مقربة من المدينة.. مدينة جدهم.. ومهاجر أبيهم.. ومأوى أمهم.. مسقط رؤوسهم، وموطن أحبتهم، ما أصعب الدخول إليها وهم على هذه الحالة
لقد خرجوا مع الإمام الحسين عليه السلام واليوم رجعوا بلا الحسين عليه السلام... ومن الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفياً أكثر من أي شيء، فلقد عاش أهل المدينة مع الإمام الحسين عليه السلام وتعودوا عليه، ورأوا في وجوده وجود جده بعلمه وهيبته وخُلقه وشجاعته وغيرته وبكل مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قرب موطنه، أهل بيت خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنهم يحملون رسالته.
ومن هذا المنطلق، نرى أن المسيرة لم تكتف بالتزام الظاهر العاطفي فحسب، بل إنها عنيت بالجانب المبدئي والمنهجي أكثر، واستمرت على ذلك في أشكال مختلفة، سواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أو استمرار البكاء، أو إلقاء الخطب، أو بث الأدعية العالية المضامين أو غير ذلك. والغاية من كل ذلك هي تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السبات العميق الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا من تمسك بالقران والعترة.
الإمام زين العابدين عليه السلام يوفد بشير بن حذلم
المتتبع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يدرك أن الإمام عليه السلام كان هو المسيطر على الأوضاع، وكان يخرق الإعلام المشوّه ويقلب الأمر على الحكام، ويبيّن الحقائق المستورة، فكان نهجه وسلوكه نهج الفعل والتأثير، لا الانفعال والتأثر.
ومن هنا نفهم سر إيفاد الإمام زين العابدين عليه السلام لبشير بن حذلم الشاعر إلى المدينة، فلقد تمكن بصفته رسول الإمام عليه السلام، وبكونه شاعراً قوياً ومؤثراً عاطفياً،من التأثير في المجتمع حتى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرك أهل المدينة، بما فيها من الرجال والنساء والكبار والصغار، إلى خارجها لاستقبال ال بيت رسول الله صلى الله عليه واله،وقد استثمر الإمام عليه السلام هذه الفرصة.
قال بشير بن حذلم: فلما قربنا من المدينة، نزل الإمام علي بن الحسين عليه السلام، فحط رحاله وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: "يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟"، قلتُ: "بلى يا ابن رسول الله صلى الله عليه واله، إني لشاعر"، قال عليه السلام: "فادخل المدينة وانعَ أبا عبد الله عليه السلام".
قال بشير: فركبتُ فرسي وركضت حتى دخلتها، فلما بلغت مسجد النبي صلى الله عليه واله رفعتُ صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول:
يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها قتل الحسين فأدمعي مدرارُ
الجسم منه بكربلاءَ مضرّجٌ والرأس منه على القناة يُدارُ
هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم،
وأنا أعرّفكم مكانه. فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخشمة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم يرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله، وخرج أهل المدينة جميعهم لاستقبال بقية الركب الحسيني.
المصدر: رحلة السبي. نشر: جمعية المعارف الاسلامية الثقافية. إعداد: معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني. ص: 81-103. الطبعة الاولى تموز 2006 م - 1426 هـ .