ما هي الدوافع للثورة الحسينية
هناك أكثر من دافع وسبب لتعليل النهضة الحسينيّة. وقد تكون متداخلة ومترتّبة بعضها على بعض. والأسباب الحقيقيّة لا بدّ أن نستلهمها من صاحب الثورة نفسه ولا يكفي أن نستند فيها إلى تحليلات الآخرين. ونلاحظ في أكثر من مشهد حسينيّ، ومنذ بداية الحركة إلى نهايتها، إعلان الإمام الحسين عليه السلام أنّه إنّما قام لطلب الإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ولمهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتمثِّل في التصدّي للحاكم الجائر المستحلّ لحرمات الله.
وحيث لا يتحقّق ذلك إلّا بالتضحية والشهادة في سبيل الله، تعيّن هذا الأسلوب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا سيّما إذا كان تركه يؤدّي إلى محق الشريعة وضياع الرسالة الّتي لا شيء أغلى منها في ميزان الله تعالى.
وللوصول إلى الدوافع والأسباب الّتي حتّمت على الإمام الحسين عليه السلام اختيار طريق التضحية، لا بدّ أن نقف على أبعاد المشكلة الحقيقيّة الّتي كانت تعانيها الأمّة الإسلاميّة في عصر الإمام الحسين عليه السلام لتتّضح لنا مدى سلامة هذا الطريق والاختيار.
وهناك أكثر من مشهد لتصوير مدى عمق مرض فقدان الإرادة في جسم الأمّة وعلى مختلف المستويات والقطاعات الاجتماعيّة بدءً بأقرب الناس إلى أهل البيت عليهم السلاموانتهاءً بالبعيدين عنهم وعن ثقافتهم. فلا بدّ أن نستعرض بعض النماذج لرسم صورةٍ عن هذا الواقع المؤلم الّذي كان يلمسه الإمام الحسين عليه السلام بكلّ وضوح.
1- لقد أجمعت كلمة عقلاء المسلمين على تخويف الإمام الحسين عليه السلام يوم صمّم أن يرفض بيعة يزيد ويثور عليه. وكانوا يقترحون عليه الحلول الّتي يؤمن معها على حياته عليه السلام وإن كان ذلك على حساب الدِّين وبقائه، ومن هؤلاء: محمّد بن الحنفيّة وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن العبّاس وعبد الله بن عمر، وكانت نصائحهم تعبّر عن نوعٍ من الانهيار النفسيّ الّذي شمل زعماء المسلمين فضلاً عن الجماهير.
2- موقف عامّة زعماء البصرة الموالين لخطّ الإمام عليّّ عليه السلام الّذين كاتبهم الإمام الحسين عليه السلام واستنصرهم فلم يستجيبوا لندائه، وكان إقدام الحسين عليه السلام يُعدُّ عند هؤلاء نوعاً من العجلة وقلّة الأناة، فمثلاً كان جواب الأحنف بن قيس الّذي تربّى على يدي الإمام عليّّ عليه السلام آية واحدة يأمره فيها بالتصبّر والتريّث.
3- حينما لقي الإمام الحسين عليه السلام عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ استنصره، وكان عبيد الله ممّن عرف الحسين عليه السلام، وعرف خطّ الحسين عليه السلام، لكنّه كان مستعدّاً لأن يقدّم فرسه لمولاه وعزّ عليه أن يقدّم قطرة من دمه في سبيل الله.
4- ذهب حبيب بن مظاهر الأسديّ ليدعو عشيرته بني أسد لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، وما كان من العشيرة إلّا أن غادرت بأجمعها تلك الليلة المنطقة واختارت أن تبقى حياديّة لا إلى الحسين عليه السلام ولا إلى عدوّ الحسين عليه السلام، وهل هذه إلّا الهزيمة النفسيّة الّتي مُنيت بها قطاعات الأمّة بمختلف مستوياتها يومذاك؟
5- لقد استطاع عبيد الله بن زياد خلال أسبوعين أو ثلاثة بعد مقتل مسلم بن عقيل أن يجنّد الألوف من أبناء الكوفة - ممّن كانوا يحملون الولاء لعليّ عليه السلام وبنيه - ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، وهم كانوا قد حاربوا إلى جانب أبيه عليه السلام في صفّين والجمل والنهروان.
أمام هذا الواقع والهزيمة النفسيّة الّتي كانت تعيشها الأمّة الإسلاميّة كان على الإمام الحسين عليه السلام أن يقدّم الموقف النظريّ تجاه الوضع القائم ويضع النقاط على الحروف بنحوٍ ينتهي معه إلى اجتثاث جذور هذا المرض الخبيث.
ومن هنا كانت الثورة المسلّحة لاستنهاض النفوس الميّتة وإيقاظها من سباتها وتبديل جُبنها إلى الشجاعة.
وتفصيل ذلك: إنّ الحسين عليه السلام كانت أمامه عدّة حلول ممكنة بعد أن طلب يزيد منه البيعة وهدّده بالقتل إن لم يبايع:
الأوّل: أن يُبايع يزيد.
الثاني: أن يرفض البيعة ويبقى في مكّة أو المدينة، مع علمه بأنّه سيُقتل حينئذ ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.
الثالث: أن يلجأ إلى بلدٍ من بلاد العالم الإسلاميّ كما اقترح عليه أخوه محمّد ابن الحنفيّة.
الرابع: أن يتحرّك ويذهب إلى الكوفة مستجيباً للرسائل الّتي وردته من أهلها ثمّ يستشهد بالطريقة الّتي وقعت. وكان اختياره للموقف الرابع قائماً على أساس إدراكه لطبيعة الظرف الّذي يعيشه، فإنّه كان عليه أن يقف موقفاً يعالج فيه عدّة مشاكل في الأمّة الإسلاميّة.
واقع الأمّة ما قبل الثورة الحسينيّة يُمكن للباحث أن يعرف ظروف وواقع الأمّة الإسلاميّة من خلال بيان أقسام وفئات الأمّة في ذلك الزمن، وهذه الفئات هي:
الأولى: وكانت تُشكِّل جزءاً كبيراً من الأمّة، وهي الّتي فقدت خلال عهد معاوية إرادتها وقدرتها على مواجهة الوضع القائم وهي تشعر بالذلّ والاستكانة، وأنّ خسارة كبيرة تحيق بالأمّة الإسلاميّة وهي تبديل الخلافة إلى كسرويّة وهرقليّة.
الثانية: وهي الّتي هان عليها الإسلام، فلم تعد تهتمّ بالرسالة بقدر اهتمامها بمصالحها الشخصيّّة، وتضاءلت عندها الرسالة.
الثالثة: وهي الفئة المغفّلة الّتي كان بالإمكان أن تنطلي عليها حيلة بني أميّة لو سكت الإمام الحسين عليه السلام عن تحويل الخلافة إلى قيصريّة وكسرويّة... فإنّ الخلافة وإن انحرفت عن خطّها المستقيم منذ توفّي النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم لكن بقي مفهومها هو مفهوم الخلافة، غاية الأمر اغتصبها أبو بكر ومن ثمّ عمر وعثمان.
بينما في عهد معاوية ابن أبي سفيان طرأ على نفس المفهوم تغيّر أساس إذ لم تعد الخلافة حكماً للأمّة، وإنّما حوّلها معاوية إلى حكم ملكي كحكم كسرى وقيصر، وهو تحويل خطير في المفهوم أراد معاوية أن يُلبسه ثوب الشرعيّة.
الرابعة: وهي الّتي ترتبط بقضية الصلح الّذي أبرمه الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، فإنّ الواقع الّذي من أجله صالح الإمام الحسن عليه السلام لم يكن مكشوفاً إلّا داخل دائرة الجماهير الّتي كانت تعيش المأساة عن قرب كالعراق بشكل عامّ دون من كان يعيش في أطراف العالم الإسلاميّ كأقاصي خراسان حيث لم يعيشوا المحنة يوماً بعد يوم، ولم يكتووا بالنار الّتي اكتوى بها الإمام الحسن عليه السلام في الكوفة من قواعده وأعدائه معاً.
وهذه الفئة لم تكن تميّز هل أنّ هذا التنازل هو اعتراف بشرعيّة الأطروحة الأمويّة، أم هو تصرّف اقتضته الضرورة والظروف الموضوعيّة الّتي كان يعيشها الإمام الحسن عليه السلام؟ فكان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام أن يختار موقفاً يُعالج فيه مشكلة كلّ واحدة من هذه الفئات الأربع من الأمّة، وكان لا بدّ أن يختار الموقف الّذي يُرجع فيه للفئة الأولى إرادتها الّتي فقدتها بسبب الإرهاب الأمويّ،
وإلى الفئة الثانية إيمانها بالرسالة وشعورها بأهميّة الإسلام، فيختار حينئذٍ الموقف الّذي يشرح فيه - حتّى لمن كان بعيداً عن الأحداث - أنّ تنازل الإمام الحسن عليه السلام لم يكن إمضاءً لعمليّة التحويل، ويوقظ فيه الفئة الثالثة من غفلتها ويظهر للفئة الرابعة الواقع الّذي ألجأ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح.
تقويم مواقف الفئات الأربع إنّ تقويم المواقف الأربعة لهذه الفئات المتقدّمة من حيث قدرة كلّ منها على تحقيق الأهداف المُشار إليها يمكن بيانه كما يلي: أمّا الموقف الأوّل: وهو أن يبايع يزيد، فهو لا يحقّق مكسباً على مستوى معالجة تلك الفئات من الأمّة... لأنّ قصّة يزيد لم تكن قصّة أبي بكر وعمر وعثمان، لأنّ التحويل هنا على مستوى المفهوم، ولم يكن بالإمكان أن تمرّ دون أن يقف أهل البيت عليهم السلامالّذين هم القادة الحقيقيّون للأمّة الموقف الدينيّ الواضح المحدّد من عمليّة التغيير هذه.
وأمّا الموقف الثاني: فهو لا يحقّق ذلك المكسب الّذي يريده الحسين عليه السلام أيضاً، وذلك لأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان يؤكد أنّه لو بقي في المدينة أو في مكّة رافضاً البيعة لقُتل من قِبل بني أميّة حتّى ولو كان معلّقاً بأستار الكعبة، وهذا القتل لن يُحرِّك المسلمين تجاه رسالتهم ودينهم. وإرجاع الأمّة إلى دينها وعقيدتها لا يمكن أن يتحقّق من خلال قتلٍ عابرٍ سهل من هذا القبيل، بل لا بدّ أن تُحشد له كلّ المثيرات والمحرِّكات.
وأمّا الموقف الثالث: فهو وإن كان أسلم من الأوّل والثاني على المدى القصير إذ يمكنه أن يعتصم بشيعته في اليمن مثلاً إلى برهةٍ معينة لكنّه سوف ينعزل، ويحيط نفسه بإطار منغلق عن مسرح الأحداث بينما لا بدّ أن يباشر عمله التغييريّ على مسرح الأحداث الّذي كان وقتئذٍ هو الشام والعراق ومكّة والمدينة كي يمكن لهذا العمل أن يؤثّر تربويّاً وروحيّاً وأخلاقيّاً في كلّ العالم الإسلاميّ.
وعليه كان لا بدّ للإمام الحسين عليه السلام أن يختار الموقف الرابع الّذي استطاع أن يهزّ به ضمير الأمّة من ناحية، ويشعرها بأهميّة الإسلام وكرامة هذا الدِّين من ناحية ثانية، وأن يدحض عمليّة تحويل الخلافة إلى كسرويّة وقيصريّة من ناحية ثالثة، وأن يوضّح لكلّ المسلمين مفهوم الصلح عند الإمام الحسن عليه السلام وأنّه لم يكن موقفاً إمضائيّاً وإنّما كان أسلوباً تمهيديّاً لموقفه عليه السلام.
ومن أجل هذا كلّه كانت الثورة الحسينيّة الّتي استطاع من خلالها الإمام الحسين عليه السلام أن يفضح المخطّطات الأمويّة، ويحطّم الإطار الدينيّ المزيّف الّذي أحاطوا به سلطانهم، ويحرّك مشاعر الأمّة الإسلاميّة لتعود إلى دينها وعقيدتها وتشعر بتقصيرها الفادح تجاه رسالة محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
المصدر:بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية