شكّل احتلال بنت جبيل، أو عدمه، الخبر الأبرز لوسائل الإعلام منذ 20 تموز 2006.
ينام الإسرائيليون على خبر الاحتلال ويستيقظون على خسائر كبيرة تلحق بضباطهم وجنودهم ودباباتهم... الحاج علي، قائد ميداني للمقاومة في محور بنت جبيل، يستعيد تفاصيل من تلك المواجهات التي بدأت في مارون الراس وطاولت مربع مارون الـراس بنـت جبيـل عيناتـا وعيترون، عارضاً محللاً... وفخوراً بالنصر الإلهي الذي تحقق الخميس 20 تموز 2006،
قرّر العدو خوض المغامرة وبدأت الحرب البرية فعلياً. كانت معركة «مارون الراس» فاتحة الحرب البرية وأكثرها تأثيراً في الأحداث في ما بعد لأنها غيّرت المعادلات. صحيح أن القرية صغيرة بالمساحة وعدد السكان إلا أنها ذات أهمية كبيرة من الناحيتين الجغرافية والعسكرية. فهي موقع حسّاس يشرف ويؤثّر على كل منطقة بنت جبيل لأنها أعلى نقطة في منطقة جنوبي نهر الليطاني (حوالى 900 متر عن سطح البحر).
وهي أيضاً مشرفة على عمق فلسطين المحتلة حيث مواقع العدو وأماكن انطلاقه، لذلك استمرّت المعارك في هذه البلدة حتى الأيام الأخيرة من الحرب من دون أن ينجح العدو في السيطرة عليها. كانت محاولة دخول أي من منازلها مكلفة جداً. يقول الحاج علي: «أي قوة أو دبابة تتحرك في البلدة كانت تتعرض لرمايات مباشرة. رغم السيطرة النارية والجويّة للإسرائيليين (أم ك + حربي+ مروحي+ قصف مدفعي عنيف) فإن شبابنا كانت لديهم القدرة العالية على التكيّف مع الظروف الميدانية الصعبة والتصدّي لأي طارئ».
يوضح أن السيطرة على مارون كان يمكنها أن تجعل من «بنت جبيل» كفاً بين يديْ العدو، وكان الهدف من معركة «مارون الراس» السيطرة على بنت جبيل والبلدات المحيطة بها «لم يتمكن العدو من حسمها عسكرياً بدليل أن المبادرة بقيت في أيدي المقاومين في تصدّيهم لمحاولات السيطرة المتكررة». ويرفض الحاج علي ادعاء العدو السيطرة على البلدة «لأنّ عمل المقاومة لا يخضع للاعتبارات الكلاسيكية، بل هو يفرض إخلاء بعض النقاط لممارسة أعمال عسكرية أخرى تفرضها مقتضيات المعركة وظروفها». بدأت الاشتباكات فجراً عند تخوم قرية «مارون الراس» الحدودية، عند الخط النقي (أو الخط الفولاذي). سمح المقاومون للآليات بالتقدّم مئات الأمتار بعد الحدود.
بوصولها إلى «نقطة المقتل» انقضوا عليها فدمّروا دبابتين واشتبكوا مع المشاة المرافقين لها. تكرّر المشهد في أكثر من نقطة حاول العدو اختراقها. لم يكن تبادلاً لإطلاق النار، بل عمليات «هجومية» للمقاومين على البيوت التي لجأ إليها الجنود الغزاة. كانوا يفرّون من بيت إلى آخر قبل أن يتراجعوا إلى «إفيفيم» (مستوطنة صهيونية قرب الحدود اللبنانية).
عادوا من حيث أتوا. ولكن ليس كما جاؤوا. فصيل كامل فر من القرية يطارده المقاومون. ويتذكر أنه في اليوم الثاني للمواجهات، اليوم التاسع للحرب، وصلت مجموعة من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إلى الطرف الغربي للقرية وتمركزت داخل أحد القصور المشرفة على بنت جبيل والحارة الغربية لمارون. ورغم أن حركة عناصر الاستخبارات تكون سرية في العادة، فقد اكتشف أمرها رجال المقاومة واستهدفوها بالأسلحة المناسبة وسقط صاروخ مباشرة على الجنود فأبيدوا بالكامل (4 جنود بينهم ضابط). حسب الإفادات والتصريحات التي صدرت عن الجنود والضباط الاسرائيليين خلال الحرب فإنهم كانوا يتوقعون، بعد القصف التدميري للبلدة (دمر من30% إلى40% من بيوتها)، أن يدخلوا قرية ممسوحة خاوية، ينشئون موقعهم الحصين، ويبدأون هجوماً آخر «موفقاً» على قرى بنت جبيل وعيناثا وعيترون. أدخل العدو قوات أخرى لإنقاذ القوة الأولى. كان لها المجاهدون بالمرصاد أيضاً. تكبد لواء غولاني أكثر من 12 قتيلاً في المواجهات الأولى.
أكثر من 6 دبابات دُمرت (بقيت واحدة محترقة في مارون بعد محاولات فاشلة لسحبها كانت تجابه بنيران لمقاومين). المفاجآت تتوالى. البيوت التي تحصّن فيها الجنود لم تعد آمنة. التحم المقاومون معهم. تلمع عينا الحاج علي وهو يتذكر هذه المواجهة، يذكر اسمي جواد وساجد (من أبطال المواجهة، استُشهدا لاحقاً). «كانت معنويات الشباب في القمة، وجنود العدو في الحضيض.
ضاقت بهم البيوت، فلجأوا إلى المراحيض». يحكي عن جواد (27عاماً) الذي كان ينتظر مولوده الأول، أنجبت زوجته في كانون الثاني الماضي بنتاً. «دارت بينه وبين الجنود اشتباكات على بعد متر ومترين. داس على جثث جنود النخبة، وأبلغ القيادة أنه قتل اثنين على الأقل». ما قام به المقاومون في مارون الراس إنجاز غير عادي لأنها، وفق المصطلح العسكري، منطقة «ساقطة عسكرياً». مساحتها صغيرة، جرداء، ما يجعل هامش المناورة أمام المقاتل ضئيلاً جداً. في المقابل سيطرة جوية كاملة لطائراته الاستطلاعية والحربية والآباتشي المتربصة بأي تحرك تختال ما وراء الحدود. وقد تمكن المقاومون من إصابة إحداها عندما تخطت حدودها عند تخوم مارون، إضافة إلى المدفعية المساندة للقوات المتقدمة والتي قدرت بمئات العناصر. يتمثل الإنجاز بحسب الحاج علي في أن ما تقدّم يوضح كيف أن مارون منطقة عسكرية مسيطر عليها من العدو ورغم ذلك تصدّى المقاومون لقواته وخاضوا معها معارك مصيرية أرغمتها على الانكفاء والتراجع وتغيير الخطط والتكتيك.
والدليل على عدم احتلال العدو لمارون أنه لم يتمكن من عزلها أو الحؤول دون إدخال تعزيزات للمقاومة الى ساحة المواجهة. قبل معركة مارون بيوم واحد (الأربعاء 19 تموز) حاول الاسرائيليون الدخول إلى جبل الباط (يقع بين عيترون ومارون الراس ومستوطنة «إفيفيم» في العمق المحتل) والتسلّل منه إلى الغابة الواقعة في خراج عيترون والالتفاف من هناك على محورين: مارون وبنت جبيل. وقعت القوات المتقدّمة في كمين محكم للمقاومين.
كان يفصل بينهم وبين الجنود الصهاينة امتداد قطعة السلاح. دارت المواجهات من مسافة متر ومترين وكانت حصيلتها 3 قتلى و6 جرحى من قوة الاستطلاع وارتفع للمقاومة شهيد واحد. بموازاة الفشل في مارون الراس، حاولت القوات الإسرائيلية الالتفاف على بنت جبيل من ناحية عيناثا المجاورة. أثناء تقدمها، ليلاً، وبوصولها إلى نقطة المقتل (كرم زيتون) انقض عليها المقاومون (كانت الكمائن تغطي كل النقاط المحتملة والمعابر النفوذية) مستخدمين مختلف أنواع الأسلحة ولا سيما القنابل التي تخفّف من إمكانية اكتشاف المقاتل ليلاً. 8 قتلى و30 جريحاً حصيلة المواجهة المشهودة بحسب اعتراف العدو الذي أطلق عليها اسم «مواجهة كرم الزيتون» واعتبرها من أقسى وأشرس المعارك التي خاضها في حرب تموز2006.
ويعلّق الحاج علي «لا شك في أن الإسرائيلي لا يعترف بخسائره الحقيقية. في مواجهة كرم الزيتون نحن أحصينا عشرات القتلى. بعض المقاومين يؤكد قتله 3 وآخر اثنين. كلّ مقاوم كانت له حصة من موسم الحصاد هذا». بعد المواجهة اضطر العدو لإخلاء المنطقة. أعاد المقاومون انتشارهم رغم القصف العنيف الذي صبّته الطائرات والمدفعية على ساحة المواجهة. في أعمال القصف سقط للمقاومة ستة شهداء. ويلفت الحاج علي إلى أن أكثر شهداء المقاومة كانوا يقضون جرّاء القصف التدميري وإغارات الطائرات الحربية أو صواريخ طائرات الاستطلاع MK.
«عدد قليل جداً منهم سقط في المواجهات، وأكثرهم قنصاً عن بعد، لأن الجنود الإسرائيليين لم يكونوا ليواجهوا أو يشتبكوا. عندما كان يسقط منهم الجريح كان يملأ الدنيا صراخاً. كانوا يرتبكون، يختبئون، يفرون... الطائرات تدافع عنهم وتغطي فشلهم». صار هدف الاسرائيلي بعد عجزه عن دخول بنت جبيل تطويقها على الأقل. كان لهذا الأمر أبعاده السياسية والإعلامية والمعنوية. حاول العدو إيهام الرأي العام بأنه سيطر على المدينة، معقل حزب الله وعاصمة المقاومة، لذا أعلن أنه احتل بنت جبيل. الوقائع على الأرض أثبتت عكس ذلك. رجال «حزب الله» ما زالوا يقاتلون في كلّ حي من أحيائها وعند كل معبر. جرت محاولات عدة للالتفاف من الشرق والغرب باءت جميعها بالفشل.
سرعان ما أعلن العدو انسحابه من المدينة. في المرحلة الأخيرة من الحرب، بعد قرار توسيع التقدّم البري عاود العدو الكرة محاولاً تطويق بنت جبيل من النواحي الشمالية والغربية والشرقية من خلال السيطرة على بعض التلال المشرفة (منطقة صف الهوا ـــــ تلة مسعود ـــــ تلة فريز في عيناثا...). في الوقت عينه حاول توسيع دائرة التقدّم (أكثر من نقطة نفوذ). اتبع أسلوب التسلل ليلاً فالإصابات والخسائر الكبيرة التي مُنيت بها القوات الغازية، أجبرته على إقحام المشاة قبل الآليات لتأمين الممرّات، ولكن الشباب المرابطين في تلك القرى ـــــ وهم قلة على كل حال ـــــ أحبطوا كل المحاولات. واضطر الجنود إلى التمترس في البيوت الكبيرة المحصنة (وهو أمر غير مألوف في حركة العسكري الاسرائيلي). وكانت تلك البيوت في حقيقة الأمر مصيدة للجنود. محاولات تطويق بنت جبيل كلفت العدو خسائر فادحة في الأفراد والدبابات. صار همّ الإسرائيلي، يقول علي، رفع علم على أحد المنازل وتصويره وعرضه على الرأي العام لإنقاذ سمعته. ولكن حتى هذا الأمر فشل فيه فشلاً ذريعاً.
يخلص علي إلى أن تجربة محور بنت جبيل أو مربع الصمود كما بات يعرف هي «نموذج واضح على الجهوزية العالية التي تمتع بها المقاومون. أمد الحرب الطويل كان يتطلب إرادة حديدية قلما نجدها لدى مقاتلين يعيشون ظروفاً مماثلة. لا ننسى أنّ الجنوب تحوّل إلى أرض محروقة. في حروب أخرى تسمع عن هدنة، عن إجلاء للجرحى، هنا الجريح كان يعالج ميدانياً وقد يستشهد رغم أن إصابته متوسطة نظراً لصعوبة نقله إلى المستشفى. طائرات الاستطلاع لا تبارح الجو. القصف المدفعي على مدار الساعة (أحصي في ليلة واحدة سقوط ما يزيد على 2000 قذيفة على عيترون وتكرر الأمر في عيتا الشعب). كان الإسرائيلي بالمعايير العسكرية منكشفاً أمام المقاومين لأن حركته الكلاسيكية لا يمكن أن تكون دائماً سرية بينما يعتمد تكتيك المقاومة على التمويه والاستتار. العدو يعتمد على إسناد ناري كثيف وتغطية جوية غير محدودة.
وفيما دخلت المقاومة عالم التكنولوجيا العسكرية من أوسع أبوابها فإن إمكانياتها لا تكاد تقارن بما لدى العدو من هذه التكنولوجيا. صحيح أن المقاوم ينطلق من خلفية عقائدية متينة أصيلة ولكنه استعدّ وتهيّأ وتجهز، ثم قاتل وصمد، وكان متيقناً من النصر فانتصر». هكذا ختم علي حديثه أو قل أودعنا بعض ما في جعبته من أسرار المقاومة التي يقول عنها الإسرائيلي إنها أصبحت بعد حرب تموز أقوى بكثير مما كانت عليه قبل الحرب... حدث في 26 تموز اعترف الجيش الاسرائيلي بمقتل تسعة من جنوده التابعين للواء غولاني، وجرح 30 آخرين في مواجهات بنت جبيل ومارون الراس بعدما كان الإسرائيليون قد أعلنوا سيطرتهم على المدينة.
ورأى رئيس مجلس النواب نبيه بري ان هذه المواجهات «ستكون منعطفاً بالمعنى الميداني والسياسي». غير أن المؤتمر الدولي حول لبنان الذي عقد في روما لم يخرج بأكثر من الدعوة إلى «العمل من أجل التوصل بشكل عاجل إلى وقف لإطلاق النار». ولم تنفع النداءات الدولية والعربية التي سبقت وتخللت المؤتمر الدولي حول لبنان، في ثني الولايات المتحدة عن موقفها الداعم للعدوان الإسرائيلي. ولم تفاجئ واشنطن أحداً عندما فرضت على المشاركين تمديد المهلة الممنوحة الى إسرائيل للاستمرار في حربها. وقدم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة أمام المؤتمر خطة من سبع نقاط تبدأ بوقف النار والتعهد بإطلاق الأسرى والمحتجزين اللبنانيين والاسرائيليين عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر وانسحاب الجيش الاسرائيلي الى خلف الخط الأزرق وعودة النازحين الى قراهم.
وقالت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس «نريد وقف العنف بشكل ملح على أساس يكون دائماً هذه المرة... ما اتفقنا عليه هو أنه يتعيّن وجود قوة دولية بتفويض من الأمم المتحدة تكون لها قدرات كبيرة وقوية للمساعدة في إقرار السلام ودعم الجهود الإنسانية». شعبياً، تظاهر الآلاف في واشنطن، باريس، جاكرتا، نيودلهي، موسكو، طهران، أنقرة، كراتشي، باكستان، وريو دي جانيرو.
جريدة الاخبار