هل تحتاج المرأة إلى قوة الشخصية؟
وهل تنسجم قوة الشخصية مع طبيعتها الأنثوية الناعمة ؟
أو تتناسب مع دور الأمومة العظيم الموكل إليها والذي يتطلب أعلى درجات العطف والحنان؟ لمناقشة هذا الموضوع، والإجابة على التساؤلات التي يثيرها، لابد أولاً من تحديد المقصود بقوة الشخصية. معنى قوة الشخصية: إننا نفرّق بين نوعين من الأجسام: جسم قوي، وجسم ضعيف، وتقاس قوة الجسم بدرجة مناعته تجاه الجراثيم والمكروبات، وتقلبات المناخ، وبمستوى أداء أجهزته وأعضائه لمهامها ووظائفها.
كما نفرّق بين نوعين من الشخصيات:
شخصية قوية، وأخرى ضعيفة، ولو تأملنا الفرق بين هاتين الشخصيتين، لتبيّن لنا أن الشخصية القوية تمتاز بالسمات التالية:
1- الثقة بالنفس : فكلما كان الإنسان أكثر ثقة بنفسه كانت شخصيته أقوى، حين يدرك ما ينطوي عليه من كفاءات وقدرات، ويعرف ما يجب أن يتمتع به من حقوق وامتيازات، ويقدّر ما حباه الله تعالى من نعم، ويحترم إنجازاته ومكاسبه، فتتجلى قوة شخصيته، وثقته بنفسه. في المقابل فإن غفلة الإنسان عن مؤهلاته، وعدم توجهه إلى ما يكتنز من طاقات، وانبهاره بما لدى الآخرين، هو الذي يفقده الثقة بنفسه، ويصيبه بضعف الشخصية.
2- التعبير عن الذات: تدور في ذهن كل إنسان آراء وتصورات، وترتسم في نفسه مشاعر وأحاسيس، تجاه أحداث أو أشخاص أو قضايا، لكن القليل من الناس هو من يعبرّ عن أفكاره وأحاسيسه في المواقف المناسبة، وتلك هي سمة من سمات قوة الشخصية. إن الكثيرين يكتمون أراءهم، ويحبسون مشاعرهم، خجلاً من إبدائها، أو تهيّباً من عدم رضا الآخرين عنها، أو تشكيكاً منهم في قيمة ما لديهم من أفكار وانطباعات، وما إذا كانت تستحق الاهتمام أم لا؟
ويحدث أحيانا أن يُضم الإنسان مجلس يُناقش فيه أمر من الأمور، ويكون له رأي في ذلك الأمر، لكنه يتردد في التعبير عنه، ثم يُفاجأ بطرح نفس الرأي من شخص آخر، واهتمام الحاضرين به، فيأسف لتفويته الفرصة على نفسه. وقد يستمع الإنسان لخطيبٍ أو متحدثٍ حول موضوع ما، وتكون لديه مناقشة أو نقد أو تساؤل، لكنه لا يجرؤ على الطرح، فإذاما خرج من المكان، رفع صوته معترضاً منتقدا.
والبعض من الناس يصعب عليه التعبير عن مشاعر الارتياح والرضا حتى أمام القريبين منه، فلا يقدم الشكر لزوجته، ولا يبدي التقدير لولده، ولا يثني على جهود زميله، في مواقف وتجاه خدمات تملأ نفسه بالراحة والإعجاب. وهو مؤشر واضح على ضعف الشخصية.
3- الدفاع عن المصالح: يتحمل الإنسان مسؤولية الدفاع عن ذاته، وحماية مصالحه وحقوقه المشروعة، فكما لا يجوز له الاعتداء على حقوق الآخرين، كذلك لا يصح له التفريط بحقوقه، وتضييع مصالحه، ورد في أحد الأدعية المأثورة: « اللهم إني أعوذ بك أن أَظِلمَ أو أُظلم، أو أعتدي أو يُعتدى عليّ».
إن البعض من الناس تتعرض مصالحه للخطر، ويُعتدى على حقوقه، فيتألم ويتأذى، لكن دون أن يتخذ أي موقف للدفاع عن الذات، أو لحماية المصالح والحقوق، لشعوره بالعجز والضعف، وحتى في المواقف البسيطة، والحالات العادية، كالبيع والشراء، وأمور الخدمات، فيبيع شيئاً او يشتري شيئاً بثمن معين، ثم يتأسف لأنه إنما قبل خجلاً من فلان، أو تحت إلحاح فلان!! إنه يتحمل التزامات ترهقه، أو يتنازل عن مصالح تهمه لأن أحداً قد طلب منه ذلك و ألح عليه، بدافع الحياء أو الخجل أو الإحراج، مع عدم اقتناعه ورضاه، وقد تسمع من يقول ما كنت ارغب في هذا الأمر لكن ماذا أصنع وقد ضغط علي فلان؟ بالطبع لا مانع من التسامح مع الآخرين،وتقديم التنازلات، إذا كان ذلك بقرار واختيار ذاتي، وعن قناعة ورضى، بل هو أمر مطلوب ومرغوب.
أما أن يستجيب الإنسان ويتنازل من منطلق الشعور بالعجز والخجل، والتساهل بحقوقه، فذلك دليل ضعف الشخصية واهتزازها. لذلك يروي الحسين عن أبيه عن جده رسول الله أنه قال: « المغبون لا محمود ولا مأجور» [1] فالذي يفرّط في حقوقه ومصالحه، ويتيح الفرصة لتلاعب الآخرين عليه، هذا لا يجعله في موقع التقدير والاحترام، ولا يكسبه الأجر من الله.
شخصية المرأة:
ربما يُفضّل أغلب الرجال لو خيرّ بين امرأة قوية الشخصية، وأخرى ضعيفة الشخصية، لاختار النمط الثاني، لأنه يريد امرأة تعطيه الفرصة أكثر لممارسة سلطته عليها، وتكون خاضعة له بشكل تام، دون أي مناقشة أو اعتراض. وربما ناقش كثيرون في مدى تناسب صفة قوة الشخصية مع طبيعة المرأة، ومهامها الأساسية في الحياة الاجتماعية؟ فهي يجب أن تكون زوجة متوافقة مع زوجها، خاضعة لقيمومته عليها، وأن تكون أُماً تفيض على أبنائها العطف والحنان، وتغمرهم بالحب والرأفة. وإذا كان الرجل يحتاج إلى قوة الشخصية لمواجهة أزمات الحياة ومشاكلها، فإن المرأة تحت حماية الرجل، وهو الذي يدرأ عنها المصاعب والأخطار. لكن هذا الطرح فيه تسطيح لدور المرأة، وتجاهل لمقومات إنسانيتها، فهي إنسان أولاً وقبل كل شيء، حباها الله تعالى كل الاستعدادات والمؤهلات الخيرّة، لكي تنطلق بها في إنسانيتها، تماماً كالرجل.
وقوة الشخصية سمة تقدم، وضمانة نجاح للإنسان في هذه الحياة، بشقيه الذكر والأنثى. ويمكننا أن نتلّمس بعض موارد الأهمية لهذه الصفة في حياة المرأة، وانعكاسها على أداء دورها الاجتماعي بشكل أفضل و أتقن، عبر الحقائق التالية:
مواجهة التحديات: تتعرض المرأة كالرجل لألوان من المصاعب والتحديات في هذه الحياة، وعليها أن تواجهها مباشرة، فحماية الرجل لا تتوفر لها ولا تنفعها دائماً، وقوة الشخصية هي السلاح النافع في ظروف التحديات والمواجهة. فماذا تصنع المرأة إذا تعرضت لعدوان، ولم يكن إلى جانبها رجل؟ هل تخضع له وترفع راية الاستسلام؟ ثم ماذا لو كان مصدر العدوان عليها من قبل المسؤول عن حمايتها؟ وهذا ما قد يحدث أحيانا، فهل تستطيع الدفاع عن حقوقها بشخصية ضعيفة خانعة؟
وحينما يتعرض دينها ومجتمعها للخطر، هل يمكنها الإسهام في معركة الدفاع عن الدين والوطن، إن لم تتصف بالقوة والصلابة في شخصيتها؟ لقد أشار الفقهاء إلى أن بعض حالات الجهاد قد توجب على المرأة المشاركة في ميادين القتال. وتحدث التاريخ الإسلامي عن مواقف بطولية سجلتها المرأة المسلمة في ساحة المعركة والجهاد، كموقف أُم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية، والتي شهدت معركة أحد، والحديبية، وحنيناً، وحرب اليمامة ضد مسيلمة الكذاب، وقطعت يدها في حرب اليمامة، وحينما حلّت الانتكاسة بالجيش الإسلامي في معركة أحد، وانهزم الرجال، ولم يبق مع الرسول إلا نفر قليل، كانت نسيبة في مقدمة المدافعين عن رسول الله ، حتى أصيبت باثني عشر جرحاً، وقال عنها رسول الله مشيداً ببسالتها وقوة شخصيتها: « ما التفت يميناً وشمالاً يوم أحد إلا و رأيتها تقاتل دوني».[2] مثل هذا الموقف البطولي لا يصدر إلا من شخصية قوية متماسكة.
إن المرأة القوية الشخصية قد تلعب دوراً في حماية الرجل في المواقف الصعبة، ولا تحمي نفسها فقط، ألم يقل رسول الله عن زوجته خديجة بنت خويلد: « آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس»؟ قال أبو إسحاق: كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدّق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن رسول الله ، لا يسمع شيئاً يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرّج الله عنه بها، إذا رجع إليها تُثبتِّه وتخفف عنه، وتصدقه، وتهوّن عليه أمر الناس، رضى الله عنها.(3)
وكذلك دافعت فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن حق علي بن ابي طالب، ووقفت زينب بنت علي إلى جانب أخيها الحسين في نهضته... وفي التاريخ الماضي والحاضر شواهد كثيرة عن بطولات النساء، ودفاعهن عن قضايا مجتمعاتهن العادلة والمشروعة. من أجل تربية سليمة: نريد لأبنائنا أن يكونوا أقوياء في شخصياتهم، وهم يتربون في أحضان و حجور أمهاتهم، فإذا كانت الأم ضعيفة الشخصية هل تستطيع أن تربّي أبناءها على الشجاعة والإقدام؟ ينقل عن الإمام علي أنه أمر ابنه محمد بن الحنفية بالهجوم، وكان حامل اللواء في حرب الجمل، فأجهز على العدو، لكن ضربات الأسنّة، و رشقات السهام منعته من التقدم، فتوقف قليلا، وسرعان ما وصل إليه الإمام، وقال له احمل بين الأسنّة. فتقدم قليلاً تم توّقف ثانية، فتأثر الإمام من ضعف أبنه بشدة، وصاح به: «أدركك عِرْق من أُمّك» [4]
إن الارتباط الوثيق بين الأم والولد، في السنوات التأسيسية التي تتشكل فيها نفسيته، يجعل تأثير الأم في تكوين شخصيته كبيراً، فإذا كانت تمتلك قوة الشخصية، فستغرس هذه الصفة في أبنائها، وعلى العكس من ذلك، قد تربيهم على الضعف والخنوع حين تكون مهزوزة الثقة بنفسها.
أمام الإغواء والإغراء: تتعرض المرأة وخاصة في الحياة المعاصرة للكثير من محاولات الإغواء والإغراء، حيث تمتلئ الأجواء العامة بوسائل الإثارة والتحريض للشهوات والغرائز، فيندفع المستجيبون لهذه الإثارات بحثاً عن فرص لإشباع غرائزهم المتحفِّزة، ويستخدمون مختلف أساليب الإغواء والإغراء للإيقاع بضحاياهم من النساء والفتيات في شباك أهوائهم الطائشة، وتدفع المرأة الضحية ثمناً باهظاً من مستقبلها الحياتي، ووضعها الاجتماعي، بينما يخرج الرجل بأقل قدر من الخسارة والضرر.
وعلى مستوى كل المجتمعات البشرية المعاصرة تتعرض المرأة لحالات كثيرة من التحرش والاعتداء والاغتصاب. وحتى في مجتمعاتنا المحافظة أصبحنا نواجه اختراقاً حاداً لأمننا الاجتماعي والأخلاقي، عبر وسائل الاتصال الحديثة كالتليفون والإنترنت، وعبر محاولات استدراج الفتيات بالكلام المعسول، والوعود البراقة، وفي بعض الأحيان بوسائل الابتزاز الرخيصة...
إن القوانين الرادعة، والأعراف الاجتماعية، ما عادت كافية للوقوف أمام تأثيرات هذه الأجواء المفتوحة، وأساليب الإغواء والإغراء المكثفة، والحصانة الأفضل، تكمن في قوة شخصية المرأة، فالمرأة الناضجة، الواثقة من نفسها، الجريئة في الدفاع عن مصالحها، هي التي تستعصي على محاولات الإغراء، ووسائل الابتزاز.
إن ملاحظة فاحصة لأغلب ضحايا حالات الإغراء والإغواء من الفتيات، تكشف أن ضعف الشخصية هو الثغرة الكبيرة التي ينفذ منها المغرضون، فالبنت التي تُسحق شخصيتها وسط العائلة، والفتاة التي تعيش خواءً وفراغاً نفسياً، والمرأة التي تصادر حقوقها من قبل زوجها، قد تصبح فريسة سهلة للمنحرفين والعابثين. النجاح في العلاقات: قوة الشخصية وما ينبثق عنها من صفات الثقة بالنفس، والتعبير عن الذات، والسعي للدفاع عن المصالح، تجعل الإنسان أقدر على النجاح في علاقاته مع الآخرين، فهو يعيش الاستقرار النفسي، والوضوح في التعامل، وبذلك يعرف حدود مصالحه ومصالح الآخرين، كما يسهل على الآخرين إدراك توجهاته ومتطلباته.
والمرأة القوية الشخصية تريح زوجها وعائلتها، وتحمل عنهم الكثير من أعباء حياتها وشؤونها، وتكسب ثقتهم واعتمادهم. وشتان بين صنفين من النساء: امرأة تدير شؤون بيتها ونفسها بثقة واقتدار، وتترك لزوجها مالا تستطيع من الأعمال والمهام، وأخرى تهتز أمام أي مشكلة، وتخاف من التعامل مع أي جهة أو موضوع، ولا تكاد تقوم بأي مهمة خارج ما ألفته دون وجود رجل معها.
إن التاريخ يحدثنا عن نساء عظيمات، نجحن في تحمل أعباء قيادية على صعيد مجتمعاتهن، وعن نساءٍ كنَّ مرجعية في أوساط أهاليهن وعوائلهن، يلجأ إلى رأيهن في الأزمات، ويعتمد عليهن في معالجة المشكلات. وفي عصرنا الحاضر نماذج كثيرة من هذا القبيل. بينما نجد الغالبية من النساء في مجتمعاتنا يعانين من ضعف شديد في شخصياتهن، بحيث يفشلن في حياتهن، وفي بناء علاقاتهن مع المحيطين.
وإذا كان بعض الرجال يستصعب السيطرة على المرأة القوية الشخصية، فإن عليه أن يعيد النظر في أسلوب تعامله، وطريقة تعاطيه، وأن يدرك أن العلاقة الزوجية الناجحة لا تتم بأسلوب الفرض والسيطرة، و إنما بالفهم والتفاهم، والاحترام للحقوق المتبادلة. وإيجابيات قوة شخصية المرأة أهم وأكبر مما قد يبدو للرجل من سلبياتها وإشكالياتها.
[1] القرشي: باقر شريف/حياة الإمام الحسين ج1 ص138
[2] باشميل: محمد أحمد/ موسوعة الغزوات الكبرى – أُحد ص153/الطبعة الثامنة 1985م مكتبة ابن تيمية - القاهرة
[3] ابن الاثير:علي بن محمد الجزري/ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج7 ص83-86 / دار الكتب العلمية – بيروت
[4] فلسفي: محمد تقي/ الطفل بين الوراثة والتربية ج1 ص61 الطبعة الثانية 1992م – مؤسسة الأعلمي - بيروت
* الشيخ حسن الصفار بتاريخ 17 شعبان 1422هـ