محطات بارزة في الذاكرة العراقية بغداد:
عادل الجبوري
لا تخلو وقائع وأحداث تأريخية مهمة شهدها العراق في تاريخه الحديث والمعاصر، من قبيل الانتفاضة الشعبانية في عام 1991، وسقوط نظام صدام في عام 2003، وقبلهما استشهاد المفكر الاسلامي الكبير اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر في عام 1980، من أوجه ترابط، بحيث ان من يدقق ويتأمل فيها يجد أن كل حدث منها أدى الى الحدث الآخر رغم الفاصلة الزمنية بين الواحد والاخر، التي تتعدى العشرة اعوام. فإعدام الشهيد الصدر،
وعموم السياسات القمعية العدوانية لنظام صدام، شكلت مقدمات وعوامل وأسباباً أساسية لاندلاع انتفاضة شعبان التي كادت أن تطيح بنظام صدام لولا قارب النجاة الذي وفرته له بعض القوى الدولية والاقليمية، وهذه الانتفاضة هي التي مهدت بطريقة أو بأخرى للاطاحة بصدام ونظامه لاحقا. ولا شك أن إقدام نظام صدام على إعدام الشهيد الصدر وأخته العلوية بنت الهدى، لم يكن ليتم لولا ادراك ذلك النظام لحجم التأثير والحضور الذي كان يمتلكه السيد الشهيد،
وقدرته على احداث تغيير وانقلاب حقيقي في المنظومة الثقافية والقيمية للمجتمع العراقي. ولعل ما ميز الشهيد الصدر، هو انه بينما اختار الكثير من الشخصيات العامة خطا واحدا، كأن يكون سياسيًا أو عالم دين، أو مفكرًا أو وجيهًا اجتماعيًا، فإنه نجح ايما نجاح ومنذ وقت مبكر من عمره في اشغال العديد من المساحات السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية.
فهو في الوقت الذي نال فيه مرتبة الاجتهاد ولم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، انخرط في الشأن الفكري، من خلال جملة مؤلفات متميزة، احتلت حيزا كبيرا في المحافل الفكرية المحلية والعالمية، مثل كتاب (اقتصادنا)، و(فلسفتنا)، و(الاسس المنطقية للاستقراء)، وانخرط كذلك في الشأن السياسي الجهادي، من خلال تبني الوقوف بوجه النظام البعثي الاستبدادي، واعلانه الواضح والصريح عن مواقفه المعارضة لذلك النظام،
في وقت كان الاخير يمتلك كل اسباب ومقومات القوة، ولم تنفع الضغوطات التي مارسها النظام ضده في ثنيه أو إرغامه على التراجع، فالشهيد الصدر لم يلجأ الى مبدأ التقية في التعاطي مع النظام الحاكم، رغم ما اتسم به الاخير من قسوة ونزعة اجرامية ضد خصومه ومعارضيه.
أفتى الشهيد الصدر بحرمة الانتماء الى حزب البعث، وحض الشعب العراقي في بيانات واضحة على الوقوف بوجه ذلك الحزب والنظام الحاكم، وعبر عن تأييده ودعمه للثورة الاسلامية في ايران بقيادة الامام الخميني. وقد نجح الشهيد وأخته بنت الهدى في بناء وتنشئة جيل مثقف وواع ومستعد للتضحية من أجل صيانة مبادئ الاسلام المحمدي الأصيل، علما أنه كان يدرك منذ وقت مبكر أن النظام الحاكم لن يتركه، وسوف يقوم بإعدامه عاجلًا أم آجلًا، لا سيما وأنه رفض فكرة مغادرة البلاد وترك ساحة المواجهة.
وبالفعل فإنه في السادس من شهر نيسان - ابريل من عام 1980، وقع صدام مرسومًا جمهوريًا يقضي بتنفيذ حكم الاعدام بالسيد الصدر وأخته العلوية بنت الهدى، وهو ما حصل بعد أيام قلائل، حيث كان النظام يعتقد أنه بإعدام ذلك الرمز والقائد ستنطوى صفحة المواجهة والمقاومة، ولم يضع في حسبانه أن الشهيد الصدر الذي غاب بجسده بقي حاضرًا وبقوة في نهجه ومواقفه ومبادئه وشجاعته وتضحيته. وقد مثل إعدامه محطة مفصلية مهمة للغاية في مسيرة النضال ضد النظام الاستبدادي في بغداد،
جاءت متزامنة مع انتصار الثورة الاسلامية في ايران وتأسيس الجمهورية الاسلامية بقيادة الامام الخميني(قدس)، لتبدأ المشاريع والاجندات الدولية للاطاحة بها وافشالها، حيث كانت الحرب التي شنها نظام صدام ضدها بعد حوالي عام ونصف من انتصار الثورة، أحد أبرز حلقات تلك المشاريع والاجندات. وبعد غياب الشهيد الصدر، اتسع نطاق المواجهة مع نظام صدام سواء من داخل العراق أو من المهاجر المختلفة، واتخذ أشكالًا ومظاهر متنوعة، سياسية واعلامية وعسكرية، لتتبلور بعد أحد عشر عامًا من خلال الانتفاضة الشعبية الشعبانية التي اندلعت في أربع عشرة محافظة عراقية بعد انتهاء حرب الكويت بهزيمة مذلة للنظام.
ولولا المواقف الدولية والاقليمية لبعض الأطراف لكانت الانتفاضة قد انتهت الى زوال ذلك النظام الذي كان يمر بأقصى درجات ضعفه وانكساره وخوائه. وبينما أشرت تلك الانتفاضة الى شجاعة واقدام وصمود العراقيين، وعدم استعدادهم للبقاء تحت نير الظلم والطغيان والاستبداد، فإنها في واقع الحال كشفت طبيعة وحقيقة النفاق الدولي، الذي تجلى واضحًا من خلال شن الحرب على نظام صدام بسبب غزوه لدولة الكويت، ومن ثم مساعدته على قمع أبناء شعبه، وتجنيبه خيار السقوط الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التحقق،
لولا الغطاء الجوي الذي وفرته الطائرات الاميركية له، علما أنها ذاتها التي طردته من الكويت. وبعد الانتفاضة، ظلت القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية تحاصر النظام وتمارس شتى الضغوط السياسية والاعلامية والعسكرية عليه، لكنها في ذات الوقت حرصت على ابقائه متسلطا على رقاب العراقيين في ظل ظروف الحصار الاقتصادي الذي انهكهم كثيرا، وكانت في ذات الوقت تراقب مجريات الامور على الارض، وما تقوم به المعارضة العراقية في المهجر وفي الميدان، حتى اذا ما ادركت ان الاطاحة بذلك النظام باتت في متناول اليد، فإنها قررت استباق الاحداث والامساك بزمام المبادرة والاسراع باسقاط صدام والاطاحة بنظامه،
وهذا ما حصل في التاسع من شهر نيسان من عام الفين وثلاثة، لتنفتح صفحة جديدة من سجل تاريخ العراق، عنوانها الواسع والعريض هو "الاحتلال الاميركي"، الذي تكررت في ظله الكثير من صور ومشاهد ومظاهر الحقبة البعثية الصدامية، ولكن تحت يافطات وشعارات مختلفة وبأدوات ووسائل اخرى. ولعل كل من يدقق ويتأمل ويتابع مسارات وتداعيات الوقائع والاحداث يستنتج ان انتفاضة شعبان في عام 1991،
كانت المقدمة لاسقاط نظام صدام بعد اثني عشر عاما. وبلا ريب، ان وقائع واحداثا مثلت محطات ومنعطفات حاسمة ومفصلية في تاريخ البلاد لا بد أن توثق بدقة وموضوعية، ولا بد أن تبقى تتصدر قائمة الوقائع والأحداث التاريخية، ومن الخطأ أن يطويها ويلفها الاهمال والنسيان في خضم تزاحم وتدافع المشاكل والازمات والقضايا والملفات.