عند التفاتنا إلى الحديث المشهور "الجنة تحت أقدام الأمهات" نتساءل ما هو السر في ذلك؟ ولماذا استحقت الأم هذه المرتبة العظيمة؟
*عطاء الأم لقد شاء الله أن يجسد العطف والرحمة الإلهية في كيان الأم، مما يجعلها تتحمل بثبات عجيب المتاعب والآلام منذ استقرار النطف في الأرحام، وحتى آخر العمر؛ بحيث يعجز الأب عن تحملها ليلة واحدة(1). لذلك، نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يسأله أحدهم عن حق الوالدة يجيب: "هيهات هيهات، لو أنه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها"(2).
قد يستغرب البعض من هذا الحديث، ويقول إنّ في ذلك مبالغة، ولكن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تولى التعليل، فعند قول أحد الرجال له: "إنّ والدتي بلغها الكبر، وهي عندي الآن، أحملها على ظهري، وأطعمها من كسبي، وأميط (أزيل) عنها الأذى بيدي، وأصرف عنها مع ذلك وجهي استحياءً منها وإعظاماً لها، فهل كافأتها؟"
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا، لأنّ بطنها كان لك وعاء، وثديها كان لك سقاء، وقدمها لك حذاء، ويدها لك وقاء، وحجرها لك حواء، وكانت تصنع ذلك لك وهي تمنى حياتك، وأنت تصنع هذا بها وتحب مماتها"(3) فالسبب الذي يبينه الحديث يكمن في الدافع والغاية من هذا العمل، فالأم تعطي دون أن تفكر بالمقابل، بل هي تعطي حتى مع التنكر والهجران، بل إنها تنسى ما تعطي، وتتلذذ بالألم الذي تعانيه في سبيل تربية ولدها، وتأنس به.
لذلك جعل الإمام زين العابدين عليه السلام حق الأم يتمثل بمعرفة ما عانته في سبيل تربية ولدها "وأما حق أمك، فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها، ولن تبالي أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتظلك وتضحى، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها، وأنك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه"(4 .
لقد أمر الله الإنسان أن يحسن إلى والديه ويكرمهما ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ (الأحقاف: 15). بل لقد قرن الأمر بالتوحيد بالإحسان للوالدين في عدة مواطن، منها قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَ تَعْبُدُوا إِلاَ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..﴾ (الإسراء: 23). ورفع منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (لقمان: 14).
ويؤكد هذا المعنى الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ الله.. أمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله"(5). إلا أنّ القرآن عندما يخصص الكلام، يتكلم عن معاناة الأم وما تكابده في فترة الحمل والإرضاع، ولهذا يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ..﴾(لقمان: 14).
وقد أجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة عندما قالت له: "يا رسول الله، ذهب الرجال بكل خير، فأي شيء للنساء؟ قائلاً صلى الله عليه وآله وسلم: "بلى، إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكل مصّة كعدل محرر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها وقال: استأنفي العمل فقد غفر لك"(6).
ولهذا يقدمها الله سبحانه بالبر على الأب.
فقد جاء في الحديث أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسأله عن أحق الناس بالبر، فيجيبه الرسول الأكرم: "أمك" ثم يسأله مرة أخرى: ثم من؟ يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "أمك" ثم يعيد عليه السؤال فيعيد رسول الله: "أمك" ثم يسأل: ثم من؟ فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "أباك"(7).
*مسؤولية الأمومة إن تخصيص القرآن الأم بالذكر والتكريم، وتقديمها على الأب بالبر، وجعل الجنة تحت قدميها، ليس فقط بسبب تحمل الآلام والمصاعب، بل لكون الأم هي التي تساهم بشكل كبير في تكوين شخصية الطفل، حتى أن لبنها يعطيه من صفاتها الخَلقية والخُلقية، كما ثبت بالعلم وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: "توقّوا على أولادكم من لبن البغيّة والمجنونة فإن اللبن يعدي"(8).
بناء عليه "فمسؤولية المرأة في هذه الشهور الثلاثين (مرحلة الحمل والإرضاع) هي أكثر من مسؤولية الرجل.. لذا، نلاحظ في القرآن الكريم أنه في الوقت الذي يوصي الناس بأن يكرموا الوالدين، يذكر مكرراً اسم الأم، لأنها كانت مراقبة ثلاثين شهراً. إذا لم ترتكب الأم عقوقاً في فترة الثلاثين شهراً، لم ترتكب عصياناً، فإن أولادها أيضاً لا يبتلون بالعقوق"(9).
*نماذج قرآنية: إذا رصدنا الأم النموذج والقدوة في القرآن الكريم، يطالعنا نموذجان هامان، أم موسى وأم مريم، باعتبارهما مثلاً وقدوة للأمهات: فأم موسى كانت نموذجاً للتسليم الذي يجب أن يتحكم بالعاطفة، فقد أمرها الله تعالى أن تلقي ابنها في نهر النيل من دون أن تخاف أو تحزن ووعدها الله بردّه إليها، وبشّرها بأنه سيكون من الذين اصطفاهم الله وقربهم. ولقد صدق الله وعده ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون﴾ (القصص: 13).
لقد علّمنا الله درساً عظيماً في هذه الآية، حيث إنه أقرّ عاطفة الأم وتعلّقها بابنها الذي هو قرّة عينها، وسرور قلبها، ولكن إلى جانب ذلك أوجب عليها أن تعلم أن وعد الله حق، وأن مشيئته وإرادته نافذة على الجميع، وأن مشكلتنا فيما نعاني من الآلام ناتج من الجهل بحكمة الله وقلة المعرفة والتسليم لأمره، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
أما أم مريم فكانت نموذجاً في تقديم مصلحة المجتمع وضرورة إصلاحه، على أثمن وأغلى عاطفة تحملها، وهي عاطفة الأمومة. لقد أدركت حنّة أن الله أراد أمراً لم تدركه وقالت: إن الذَكرَ الذي طلبت ليس كهذه الأنثى التي رزقت ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 36). والمهم أن تكون في حصن ومأمن من الشيطان هي وذريتها، فلعلها تكون أماً لمصلح أراد الله أن يأتي من عقبها ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (آل عمران: 36).
وهنا درس آخر يقدمه القرآن الكريم، إنّ أفضل وأنفع عمل يمكن للأم أن تقوم به، أن تعيذ ابنها بالله من الشيطان فيكون في حصن ومأمن من الإضلال والإفساد. عندما يعدّد القرآن ميزات نبيه عيسى عليه السلام وأوسمته، يجعل من بينها برّه بأمه ﴿وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً﴾ حيث إن العاقّ بوالدته يعتبر في نظر القرآن جباراً وشقياً، "فالجبار تطلق على الشخص الذي يعتقد بأن له الحق على الناس، ولا يعتقد أن لأحد عليه حقاً.. والشقي تقال للشخص الذي يهيئ أسباب البلاء والعقاب لنفسه"(10).
لقد أودع الله الحكيم قلب الأم قبساً من نور رحمته، التي وسعت كل شيء. ورحم الله الإمام الخميني عندما قال: "فالتعبير الرقيق الوارد في الحديث الشريف "الجنة تحت أقدام الأمهات" حقيقة تشير إلى عظم دور الأم، وتنبه الأبناء إلى أنّ السعادة والجنة تحت أقدام الأمهات، فعليهم أن يبحثوا عن الجنة والسعادة تحت التراب المبارك لأقدامهن، ويعلموا أنّ حرمتهن تقارب حرمة الله تعالى، وأن رضا الباري جلّت عظمته إنما هو في رضاهن"(11).
(1) يراجع: الخميني، روح الله: وصايا عرفانية، ص 41 42.
(2) ميرزا النوري، مستدرك الوسائل: ج15، ص179.
(3) م،ن، ص،ن. (
4) الصدوق، محمد بن علي، الأمالي: ص453.
(5) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج74، ص72.
(6) الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج9، ص316.
(7) الكليني، م، س، ج2، ص166.
(8) الصدوق، مكارم الأخلاق، ص223.
(9) جوادي آملي، جمال المرأة وجلالها، ص223.
(10) الشيرازي، م، س، ج9، ص314.
(11) الخميني، م، س، ص42.
المصدر:مجلة بقية الله_الحاجة أمل قطان