معنى البلاء
البلاء هو الاختبار والامتحان في الحسن والقبح، كما صرّح بذلك أهل اللغة. يقول الجوهري في الصحاح: "والبلاء الاختبار يكون بالخير والشر، يُقال أبلاه بلاءً حسناً وابتلاه معروفاً، ويقول الحقّ تعالى: ﴿بَلاء حَسَن﴾".
على أيّة حال، إنّ كلّ ما يمتحن به الحقّ جلّ جلاله عباده، يُدعى بلاء أو ابتلاء، سواء كان بالأمراض والأسقام، والفقر والذلّ، وإدبار الدنيا، وغيرها من قبيل هذه الأمور أو كأن يختبرهم بكثرة الجاه والاقتدار، والمال والمنال، وبالزعامة والعزّة والعظمة.
ومعنى امتحان الحقّ تعالى للناس واختبارهم، هو فصل الناس بعضهم عن البعض الآخر، لمعرفة السعيد وتمييزه عن الشقيّ. وليس الهدف أن يعرف الحقّ تعالى من سيسعد ومن سيشقى، أو من سيكتب له النجاح ومن سيسقط. لأنّ علم الحقّ تعالى أزليّ ومتعلّق بكلّ شيء ومحيط به قبل إيجاده.
من فوائد وثمار البلاء
1- الإعراض عن الدنيا:
إذاً، علمنا من هذا التمهيد بأنّ لطف الحقّ تبارك وتعالى وعنايته كلّما شملت شخصاً أكثر، ووسعته رحمة الذّات المقدّسة بصورة أوفى، أبعده سبحانه عن هذا العالَم وزخارفه أكثر، ودفع به نحو أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنقلع رغبته بالدنيا، فيوجّه وجهه حسب مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة وترتبط روحه بذلك العالَم. وإن لم يكن من جدوى في احتمال شدائد المحن إلا هذه الجهة،
وهي الانزجار والإعراض عن الدنيا والإقبال نحو الآخرة لوحدها لكفى. وفي الحديث الشريف إشارة إلى هذا المعنى: عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ الله تعالى ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية في الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض". ونقل هذا المعنى في حديث آخر.
ولا يحسبنّ أحد أنّ محبّة الحقّ وشدّة عناية ذاته الأقدس، لبعض عباده جزاف ومن دون جهة ـ والعياذ بالله ـ بل كلّ خطوة يخطوها مؤمن وعبد من عباده، غمرته رحمة الحقّ المتعالي وأقبل على عبده قدر ذراع.
إنّ مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحاً وسلك طريقاً مظلماً فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة.
فكلّما رفع الإنسان قدماً نحو عالم الآخرة، اتّضح السبيل أكثر، وغمرته عنايات الحقّ بصورة أكبر، وتوفّرت عوامل التوجّه إلى عالم القرب ـ الآخرة ـ والانزعاج عن عالم البعد ـ الدنياـ والعنايات الأزلية للحقّ المتعالي إنّما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه ـ سبحانه ـ الأزليّ بطاعتهم أيّام التكليف. كما أنّكم لو علمتم أيام طفولة ولديكم بأنّ أحدهما سيُطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم وثانيهما يبعث على سخطكم وامتعاضكم، فمن المعلوم أنّ ألطافكم ستشمل المطيع أكثر من الثاني منذ الأيّام الأولى.
2- الإكثار من ذكر الله والانقطاع إليه:
ومن فوائد شدّة ابتلاء الخواصّ من العباد، أنّ هؤلاء من خلال المحن والمعاناة، يذكرون الحقّ ويناجونه ويتضرّعون على أعتابه المقدّسة، في ساحة ذاته الأقدس، ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن الطبيعيّ أنّ نوع بني الإنسان يتشبّث حين الشدّة بكلّ ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء والراحة يغفل عنه. ولّما كان الخواصّ من العباد، لا يعرفون ملجأً إلاّ الحقّ، توجّهوا نحوه، وانقطعوا إلى مقامه المقدّس، وإنّ الحقّ المتعال يوفّر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته الخاصة بهم. ولا تُستساغ هذه الفائدة ـ من الابتلاء ـ وحتّى الفائدة السابقة، لدى الأنبياء والأولياء الكُمَّلين، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه الدنيا،
ولا تتبدّل في الانقطاع إلى الحقّ من جرّاء تغيّر الأحوال. ويُمكن أن يكون إيثار الأنبياء والأولياء للفقر على الغنى، والابتلاء على الراحة، والمعاناة على غيرها نتيجة أنّهم وقفوا من خلال النور الباطنيّ والمكاشفات الروحانية على أنّ الحقّ المتعالي لا ينظر بعين اللطف إلى هذا العالَم ولا إلى زخارفه، ولا يكون للدنيا وما فيها موقع أمام ساحته المقدّسة إلّا الذلّ والهوان. والأحاديث الشريفة شاهدة على ذلك.
.ففي الحديث أنّ جبرائيل قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الأرض وقال لو اخترتها لما هبط من درجاتك الأخروية شيء أبداً. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتنع عن القبول تواضعاً للحقّ سبحانه، فاختار الفقر12. وفي الكافي الشريف في حديث بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الكَافِرَ لَيَهُونُ عَلَى اللهِ لَوْ سَأَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فيها أَعْطَاهُ ذلِكَ"13، وذلك من جرّاء هوان الدنيا في عين الحقّ الكبير المتعالي.
وفي حديث إنّ الحقّ جلّ وعلا منذ أن خلق العالم المادّي لم ينظر إليه نظرة لطف وعناية. 3- المقام المحمود عند الله: ومن فوائد شدّة ابتلاء المؤمنين حسب ما أُشير إليه في الأخبار، أنّ لهم درجات لا ينالونها إلاّ من وراء المصائب والأسقام والآلام. ويُحتمل أن تكون هذه الفوائد صورة ـ غيبية ـ للإعراض عن الدنيا والإقبال على الحقّ المتعالي. ويُمكن أن تكون صورة ملكوتية لهذه المحن حيث لا تبلغ إلاّ بعد حصولها ـ البليّات ـ في عالم المُلك وابتلاء الإنسان بها، كما ورد في الحديث الشريف المأثور في الكافي بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام قال: "إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ فَمَا يَنالُها إلاّ بِإِحْدَى الخَصْلَتَيْنِ إمّا بِذَهابِ مالٍ أوْ بِبَلِيَّةٍ في جَسَدِهِ".
وفي رواية شهادة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنّه رأى جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وأخبره بـ "إنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ لاَ تَنَالُهَا إلاّ بِالشَّهَادَةِ"15. ومن المعلوم أنّ الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلاّ بعد وقوع الشهادة في عالَم الملك ـ عالمنا الحاضر ـ كما برهن على ذلك في العلوم العالية. وورد في الأخبار المذكورة أنّ لكلّ عمل في هذا العالَم صورة في عالَم آخر
. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إِنَّ عَظيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظيمِ البلاءِ وَما أحَبَّ اللهُ قَوْماً إلاّ ابْتَلاهُمْ".
* كتاب جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.