إن الشيعة عندما فقدوا الأمل في تشكيل الحكومة كانوا يعمدون إلى تأمين متطلّباتهم اليوميّة في هذا المجال بالرجوع إلى فقهاء البلاد، وفقاً لمرتكزاتهم الذهنيّة مستلهمين ذلك من أمثال روايات عمر بن حنظلة وأبي خديجة والتوقيع الصادر من الناحية المقدّسة، معتبرين - في الواقع - الفقهاء الجامعين للشرائط «النوّاب العامّين لصاحب العصر» (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) في مقابل «النوّاب الخاصّين» له في زمان الغيبة الصغرى.
ولكن منذ أن حصل بعض حكّام الشيعة على شيءٍ من السلطة طُرحت مسألة «ولاية الفقيه في زمان الغيبة الكبرى» بمزيد من الجديّة. وعند انتشار صيت هذه القضيّة بين عامّة الناس، سعى الحكّام والسلاطين، من أجل إضفاء الشرعيّة على حكوماتهم، إلى الحصول على موافقات الفقهاء الكبار بل وحتّى إلى الاستئذان منهم رسميّاً في بعض الأحيان، وفي المقابل اغتنم الفقهاء مثل هذه الفرصة لنشر العلوم الإسلاميّة والترويج للمذهب.
إلاّ أنّ ظواهر الأمور تشير إلى أنّه لم يكن أيّ من هؤلاء السلاطين في أيّ من الأزمنة مستعدّاً لتسليم كرسيّ سلطنته إلى الفقيه الجامع للشرائط، كما إنّه لم يكن لأيّ فقيه الأمل في الوصول يوماً إلى سدّة الحكم.
في الواقع إنّ انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران كان السبب من وراء تحقّق ولاية الفقيه عمليّاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة فبرزت الحاجة إلى دراسة مبانيها وفروعها بمزيد من الدقّة والتعمّق. إنّ أهمّ سؤال يطرح بخصوص المباني هو: ما هو المناط في مشروعيّة ولاية الفقيه؟ وما هو الدليل على ذلك؟ إذ أنّ الإجابة بشكل واضح ودقيق على هذه الأسئلة كفيل بأن يُجيب على المسائل الفرعيّة التي من جملتها الأسئلة المطروحة في مستهلّ البحث.
في هذا الصدد يمكننا الإشارة إلى مبنيين أساسيّين:
المبنى الأوّل: إنّ مشروعيّة ولاية وحكومة الفقيه مستمدّة من الولاية التشريعيّة لله عزّ وجلّ، وإنّه أساساً ليس لأيّ ولاية أن تكتسب الشرعيّة من دون الاستناد الى النصب والإذن الإلهيّين، بل وإنّ اعتبار شرعيّة أيّ حكومة إن لم يكن عن هذا الطريق فهو نوع من الشرك في الربوبيّة التشريعيّة للباري جلّ وعلا.
بتعبير آخر؛ إنّ الله تعالى قد أسند مقام الحكومة والولاية على الناس إلى الإمام المعصوم (ع) وإنّ الإمام هو من نصّب الفقيه المستوفي للشروط، سواءً في زمان الحضور وعدم بسط اليد أو في زمان الغيبة، وإنّ طاعته ـ في الحقيقة ـ طاعة للإمام المعصوم كما إنّ مخالفته مخالفة له وهي بمنزلة إنكار الولاية التشريعيّة الإلهيّة: «والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله».
المبنى الثاني: إنّ الشارع المقدّس لم يمنح حقّ الولاية إلاّ للإمام المعصوم، وبطبيعة الحالة إنّ اِعمال هذه الولاية لن يتسنّى له إلاّ في زمان حضوره (ع).
أمّا في زمان الغيبة فيجب على الناس استناداً إلى القواعد الكليّة، مثل «أوفوا بالعقود» و«المسلمون عند شروطهم» أو، أحياناً، عندما تتوفّر مثل هذه الادلّة أن ينتخبوا ويبايعوا من يجدونه مناسباً للحكومة، نظير ما يعتقد به أهل السنّة في الحكومة بعد رحيل النبيّ الأكرم (ص).
غاية ما في الأمر أنّ الشارع يبيّن شروط الحاكم الصالح وإنّ المسلمين مكلّفون أن يشترطوا في بيعتهم التزام الحاكم بالعمل وفقاً لتعاليم الإسلام. أمّا التعهّد بالطاعة المطلقة فهو بمثابة «الشرط المخالف للشرع ضمن العقد» ولا اعتبار له. على أساس هذا المبنى فإنّ المناط في مشروعيّة ولاية الفقيه هو عقد يُبرم مع الناس وإنّ البيعة - في الحقيقة - هي التي تلعب الدور الرئيس في إضفاء الشرعيّة على ولاية الفقيه.
على ما يبدو فإنّ المرتكز في أذهان الشيعة والمستفاد من كلام الفقهاء هو المبنى الأوّل، وإنّ التعابير الواردة في الروايات الشريفة تؤيّده بشكل كامل. أمّا الأمر الذي أدّى، في الواقع، إلى طرح النظريّة الثانية هو إمّا الانجذاب نحو الديمقراطيّة الغربيّة الذي وجد - مع بالغ الأسف -طريقه إلى الدول الإسلاميّة أيضاً، أو إنّه بيان الدليل الجدليّ من أجل إقناع المخالفين وإلزامهم، كما ورد في كلام أمير المؤمنين (ع) الذي خاطب فيه معاوية في قضيّة اعتبار بيعة المهاجرين والأنصار.
المصدر:مجلة «حكومت إسلامي»، السنة الاُولى، العدد الأوّل، آية الله محمد تقي مصباح اليزدي.