أدلّة ولاية الفقيه
تقسم أدلّة إثبات ولاية الفقيه الجامع للشرائط إلى قسمين أساسيّين:
عقليّ ونقليّ. ـ
الأدلّة العقليّة: نظراً إلى ضرورة وجود الحكومة لتأمين المتطلّبات الاجتماعيّة للرعيّة والوقوف أمام الهرج والمرج والفساد والإخلال بالنظام، وبالالتفات إلى أهميّة تنفيذ الأحكام الاجتماعيّة للإسلام وعدم اختصاص تلك الأحكام بزمان حضور النبيّ (ص) والأئمّة (ع)، يمكن إثبات ولاية الفقيه من طريقين:
الأوّل: هو أنّه عندما لا يتيسّر تحصيل المصلحة التي يكون استيفاؤها بالحدّ المطلوب والمثاليّ ضروريّاً فلابدّ من تأمين هذه المصلحة بنسبة هي أقرب ما تكون الى الحدّ المطلوب.
إذن ففي مسألتنا هذه لو كان الناس محرومين من مصالح حكومة الإمام المعصوم لَتعيّن عليهم السعي إلى تحصيل المرتبة التالية لذلك؛ بمعنى أن يرضوا بحكومة شخص هو أقرب ما يكون إلى الإمام المعصوم. هذا القرب يتبلور في ثلاثة أمور أساسيّة:
أوّلها: العلم بالأحكام الكليّة للإسلام (الفقاهة)،
وثانيها: اللياقة الروحيّة والأخلاقيّة التي تردعه عن الانجراف خلف أهواء النفس أو الوقوع فريسة للتهديد والتطميع (التقوى)،
وثالثها: الجدارة والخبرة في إدارة شؤون المجتمع التي يمكن تفكيكها إلى خصال ثانويّة من قبيل: الوعي السياسيّ والاجتماعيّ، والوقوف على القضايا الدوليّة، والشجاعة في التصدّي للأعداء والمخرّبين، والحدس الصائب في تشخيص الأولويّات والأهمّ فالأهمّ، و... الخ.
إذن يتوجّب على الشخص الذي يتمتّع أكثر من غيره بمثل هذه المواصفات أن يتولّى زعامة وقيادة المجتمع ليجمع أركان الدولة إلى بعضها ويسير بالبلاد نحو الكمال المطلوب. بالطبع إنّ مهمّة تشخيص مثل هذا الشخص لابدّ أن يُعهد بها إلى ذوي الخبرة كما هو المعمول به في كلّ مرافق الحياة الاجتماعيّة الأخرى.
الطريق الثاني:
إنّ الولاية على أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم هي من شؤون الربوبيّة الإلهيّة ولا تستمدّ شرعيّتها إلاّ من خلال التنصيب من قبل الله أو الإذن منه تعالى، وإنّنا نعتقد أنّ هذه السلطة القانونيّة قد اُسند بها إلى النبيّ الأكرم (ص) والأئمّة المعصومين (ع) من بعده. لكن في الزمن الذي يكون الناس فيه محرومين عمليّاً من وجود القائد المعصوم فهل على الله سبحانه وتعالى أن يصرف النظر عن تنفيذ الأحكام الاجتماعيّة للإسلام؟
أم أن يأذن لمن هو أصلح من الآخرين لتولّي هذه المهمّة لئلاّ يستلزم الترك ترجيح المرجوح ونقض الغرض والعمل بخلاف الحكمة؟
ونظراً لبطلان الفرض الأوّل يثبت الثاني؛ وهذا يعني أنّنا نكتشف من طريق العقل أنّ هذا الإذن قد صدر من قبل الله تعالى والأولياء المعصومين حتّى وإن لم يقع في ايدينا بيان نقليّ صريح بذلك. والفقيه الجامع للشرائط هنا هو ذاك الفرد الأصلح حيث أنّه عارف بأحكام الإسلام أفضل من غيره، ويتمتّع بضمانة أخلاقيّة أقوى من أجل تنفيذ هذه الأحكام، وفي الوقت ذاته هو الأجدر والأكثر كفاءة في مقام تأمين مصالح المجتمع وتدبير شؤون الرعيّة.
إذن فنحن نكشف عن مشروعيّة ولايته (الفقيه) عن طريق العقل، كما هو الحال في الكثير من الأحكام الفقهيّة الأخرى، لاسيّما في حقل المسائل الاجتماعيّة (كالواجبات الحربيّة) حيث يجري إثباتها عن هذا الطريق (الدليل العقليّ). الأدلّة النقليّة: وهي عبارة عن الروايات الدالّة على إرجاع الناس إلى الفقهاء في سبيل قضاء حوائجهم الحكومتيّة (خصوصاً فيما يتعلّق بمسائل القضاء والمنازعات)، أو تلك التي تعرّف الفقهاء على أنّهم «الأمناء» أو «الخلفاء» أو «وارثي» الأنبياء وأنّهم الأفراد الذين بيدهم مجريات الأمور، وقد اُغرق في البحث في سندها ودلالتها ممّا لا يسع المقام هنا لذكره، وما على الراغب إلاّ الرجوع الى الكتب والرسائل المفصّلة في هذا المضمار.
إنّ الأفضل - من بين تلك الروايات - في الاستناد عليه هي مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة والتوقيع الشريف، فليس من سبيل للتّشكيك في سندها حيث أنّها تتمتّع بشهرة روائيّة وفتوائيّة، وإنّ دلالتها على تنصيب الفقهاء بعنوانهم وكلاء وممثّلي الإمام المقبوض اليد لواضحة. وإن لم تكن الحاجة الى مثل هذا التنصيب في زمان الغيبة أشدّ منها في زمان الحضور، فهي ليست بالأقلّ منها. إذن، وفقاً ل «الدلالة المطابقية» يثبت أيضاً تنصيب الفقيه في زمان الغيبة.
كما أنّ احتماليّة أنّ تعيين وليّ الأمر في زمان الغيبة قد اُوكل إلى الناس أنفسهم، فعلاوة على عدم توفّر أدنى دليل على هذا التفويض، فإنّه لا ينسجم والتوحيد في الربوبيّة التشريعيّة، ولم يتمّ طرح ذلك ـ حتّى من باب الاحتمال ـ من قِبل أيّ فقيه من الشيعة (اللّهم إلاّ في الآونة الأخيرة). على أيّة حال فإنّ الروايات المذكورة أعلاه تُعدّ من المؤيّدات الممتازة للأدلّة العقليّة. طبقاً لهذا المبنى بات من الجليّ ضمناً أن لا دور للبيعة مطلقاً في شرعيّة ولاية الفقيه، كما لم يكن لها أيّ دور في شرعيّة حكومة الإمام المعصوم.
إلاّ أنّ بيعة الناس للوليّ من شأنها أن تهيّئ الأرضيّة اللازمة لإعمال ولايته وإنّ وجودها سوف يسلب من حاكم الشرع العذر في الانزواء وعدم التصدّي لإدارة شؤون المجتمع: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر...».
هنا يُطرح السؤال التالي: بأيّ آليّة تمّ نصب الفقيه من قبل الله سبحانه وتعالى أو الإمام المعصوم؟
هل إنّ كلّ فرد جامع للشرائط يتمتّع بمقام الولاية بالفعل، أم إنّه شخص بعينه، أم إنّهم مجموعة فقهاء كلّ عصر وزمان؟ جواباً على ذلك نقول: إذا كان استنادنا أساساً على الدليل العقليّ، فمقتضاه واضح؛ ذلك لأنّ تنصيب الفقيه الذي هو الأفضل على صعيد الفقاهة والتقوى والقدرة الإداريّة ولوازمها، والذي يتمتّع بإمكانيّة إدارة شؤون جميع مسلمي العالم من خلال نصب الحكّام والعمّال المحلّيّين، هو أقرب إلى المشروع الأصليّ لحكومة الإمام المعصوم وهو أفضل في الوصول إلى الهدف الإلهيّ المتمثّل في وحدة الأمّة الإسلاميّة وحكومة العدل العالميّة.
لكن في حال أنّ ظروف العالم لا تسمح بتشكيل هذه الدولة الواحدة، فلابدّ من التنزّل والتفكير بأشكال حكوميّة اُخرى مع مراعاة الأقرب فالأقرب.
أمّا إذا كان استنادنا بالأصل على الروايات فإنّه، وإن كان مقتضى الإطلاق فيها هو ولاية أيّ فقيه جامع للشرائط، لكنّنا نظراً لوجود الروايات التي تتضمّن التأكيد على تقديم الأعلم والأقوى (أمثال الحديث النبويّ المشهور وصحيحة عيص بن قاسم)، سنحصل على نفس النتيجة التي حصلنا عليها من خلال الأدلّة العقليّة.
السؤال الآخر الذي يُطرح هنا هو: لو لم يوجد الشخص الذي هو الأفضل من جميع الجوانب فما العمل؟ والجواب الإجماليّ على هذا السؤال هو: إنّ الشخص الذي يتّصف في المجموع ب «الأفضليّة النسبيّة» لابدّ أن يأخذ على عاتقه هذه المسؤوليّة، وعلى الناس أن يقبلوا بولايته. بالطبع إنّ التفرّعات المختلفة لهذه المسألة تحتاج إلى بحث مستفيض ومعمّق ممّا يتطلّب مجالاً أوسع.
المصدر:مجلة «حكومت إسلامي»، آية الله محمد تقي مصباح اليزدي.