تنمية الدافع الديني عند الأطفالبحسب منهج التربية الرمزية
"لم أكن هنا منذ البداية"
كانت خالتي "ألكا" هنا يوم الأحد، وعمي "ويلي" أيضا كان هنا، كان عندنا الشاي والحلوى.
أمي وخالتي تتحدثان دوما عن الذكريات الماضية. إنهما تقولان لبعض دوما:"ألا تتذكرين..؟".
إنهما تضحكان دوما عند الكلام عن هذه الذكريات.
في يوم ما نهضت أمي وجاءت بألبوم كبير للصور. كان في ذلك الألبوم صور كثيرة من الماضي. في صورة منها كان جدي وجدتي يسيران مع فتاتين صغيرتين. قالت أمي: هذه خالتك "ألكا"، وهذه أنا.
وفي صورة أخرى كان أبي وأمي يقفان معا إلى جانب سيارة. قال أبي: كانت هذه أول سيارة لي.
سألته: أين كنت أنا في ذلك الوقت؟
ضحكت أمي وقالت: لم تكن هنا في ذلك الوقت، لم تكن قد منحت لنا.
إذا، أنا لم أكن هنا منذ البداية.
في وقت ما لم أكن قد منحت بعد. ولكنني الآن هنا. إنني أعيش الآن.
من أين بدأت حياتي؟
ومن منحني حياتي؟ من أهداني حياتي؟"
الإيضاح والتحليل:
تهدف هذه القصة لتقريب أذهان الأطفال لفلسفة الحياة والمبدأ والمعاد باسلوب غير مباشر وبالإستناد إلى الرموز والأحداث الرمزية، بعيدا عن التصنع، التمادي في توظيف الألفاظ واستخدام العبارات الشكلية بل استخدام أكثر ظروف الحياة تطبعا بالبساطة والطبيعية والعرضية. تنطلق القصة من ظرف بسيط لا يتعدى إطار التسلية والترويح الأسري وينتهي في الختام بالسؤال الأكثر جدية من قبل الإنسان وهو السؤال عن مكان وسبب خلقه. تبدأ القصة من حدث يومي بسيط مثل مشاهدة الألبوم واستذكار ذكريات الماضي(رموز) ويعرض في ثنايا هذه الألعاب والترويحات ماضي الطفل(أي من أين أتى ومن خلقه).
تتضمن القصة، في ظاهر الامر، مشهدا لحوار عادي بين أعضاء الأسرة. إلا أن ما يستنبطه من مفاهيم وتعاليم يوضح الفلسفة الاعمق للوجود. تبدأ القصة تحت عنوان "لم أكن هنا منذ البداية"، عبارة مثيرة للتفكير تعيد الطفل لماضيه وتولد في ذهنه بعض الأسئلة.
ثم تعرج القصة إلى الخالة والعم وإلى بيئة المنزل المتضمنة للمحفزات الفيزيائية والملذة مثل الحلوى والشاي.
وفي المرحلة التالية نصل إلى الذكريات... ثم يصل الدور للألبوم الكبير، صورة من الماضي، عودة على الماضي، مراجعة الذكريات،الشعور بالوجود ، بالهوية... ثم هذا السؤال الإسترسالي، الطبيعي والبسيط بلغة الأطفال لا بلغة الكبار، باللغة البسيطة واللطيفة للطفل نفسه.(أين كنت في ذلك الوقت).
هنا ، تبدأ خطوة تنمية الدافع الديني، تنمية دافع تقصي الله، بأسلوب في غاية البساطة والهدوء والإرتجالية، ولكن جذري ومتعمق: أين كنت أنا في ذلك الوقت؟ (ضحكت أمي وقالت: لم تكن هنا في ذلك الوقت، لم تكن قد منحت لنا).
هذه العبارة، تتضمن فعلا مبنيا للمجهول، أي أنه يتوجب على الطفل البحث عن الفاعل فيما وراء الستار وفي أعماق الذهن وخلف الكواليس، أن يبحث عن المركز الأساس، أي:
من منحني لأسرتي؟ من هو؟ وعودة إليه وإلى لغته، التكرار والتأييد من قبله حيث لم يتم تعليمه في هذا الخصوص، لم يبادر أحد لتلقينه فقد كشف ذلك بنفسه:(أنا لم اكن هنا منذ البداية) (في وقت ما لم أكن قد منحت بعد) وهذا التكرار إنما دليله إعادة صياغة الأفكار، ضرب من الإبداع، نوع من الإستنباط المتكرر فيما يخص عملية الخلق، في ذهن الطفل وبلغته هو. (ولكنني الآن هنا، إنني أعيش الآن) أنظروا كيف يتم تذكيره بالحياة من خلال عبارة قصيرة بسيطة، إسترسالية، خبرية، بعيدة عن التلقين وإرجاءات التعلم الشكلية والإستدلالات الفلسفية و..:
"أعيش". فالإنسان كلما يقترب من شيء ما ينأى عن فهمه، وكلما ازداد استغراقا فيه ينحسر تحسسه لذلك الشيء...
ثم يطرح هذا السؤال:"من أين بدأت حياتي؟".
سؤال يجعل ذهن الطفل يخوض غمار مجالات الوجود، يدفعه نحو التداعيات الحرة فبطلق له العنان في أجواء فطرته، يأخذ بيده من السراب ليكشف عن الصواب مهتديا بنداء أعماقه. لا يرد على استفساره، لا جواب لسؤاله، لا يلقن الطفل بأي شيء، عليه أن يقصى حقيقته في نفسه. لا بد له من التمحيص في علم مدفون في فطرته، يتعين عليه الإهتداء إلى صورة عالم الوجود من خلال ما ينعكس في مرآته هو حيث أن "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
ثم يأتي السؤال اللاحق، سؤال يتبعه سؤال ولكن دون الرد على أي من الأسئلة، تأجيج لوعة وعطشا تلو عطش. (من أهداني حياتي؟) "من"،"الهدية". أي جمال! وأي براعة! إنه يتذوق الحب من خلال:"الهدية"، المحبة، التوادد. إنه يشعر: هنالك من يحبه ومن يمنحه الحياة. من هو؟ لا يجد جوابا لسؤاله في الخارج، لا يتلقى تعليما من الخارج.
فلو يتلقى ردا وتعليما من الخارج يتلاشى الرد والتعليم الباطني. فالتعلم ينكفئ مع ظهور بوادر التعليم. ولو يتم إيحاء المفاهيم والردود الجاهزة ينعدم الكشف الباطني. وكما يقول"بياجيه":"متى ما علمنا الطفل شيئا نكون منعناه أن يكشف عنه بنفسه!".
وبهذا تنتهي قصة"معرفة الله" و"حب الله" دون الرد على أي سؤال ودون نهاية محددة ودون تحقيق الإتزان الذهني ودون تحديد واجب ودون إقناع. فهذه النهاية إنما هي في حقيقتها بداية لا نهاية لها.
أما في حالة رفد الأجوبة والتعليمات والإتزانات، فإنها تؤول إلى نهاية لجميع البدايات والإنطلاقات، على انكفاء كل حالات الظمأ، تراجع جميع الطلبات.
ولهذا يقول الامام موسى بن جعفر الكاظم(ع):"اللهم لا تخرجني من التقصير"(أي الشعور بالحاجة والنقائص)، لم يقل "من الكمال" بل "من التقصير" لأن هذا الشعور بالحاجة، منجم اللهفة هذا ونفس هذا الإحساس بالفراغ وبعد الإتزان، هو الذي يمنح الكمال للإنسان. فهذا التقصير هو انطلاقة كماله الأبدي بينما الكمال نفسه يعتبر توقفا.
المصدر:[1] د.عبد العظيم كريمي-الإتجاه الرمزي في التربية الدينية-دار الهادي-الطبعة الأولى-2007-مقتبس من الفصل الخامس