لا ريب في أنّ الدخل المحدود، والإمكانيّات القليلة، وغلاء الأسعار، أمورٌ تحول دون قدرة الإنسان على تلبية جميع متطلّبات حياته. لذا، فإنّ حسن التدبير في المعيشة يقتضي تقنين إنفاق الأموال حسب الأولويّات التي تتطلّبها ظروف المعيشة، أي يجب تسخير الأموال لتوفير المتطلّبات الضروريّة، أمّا الأمور الثانويّة، التي لا ضرورة لها، فهي في الدرجة الثانية في سُلّم الترتيب.
فلو لم ينتهج الإنسان هذا النهج، ولم يُعِرْ أهمّيّةً لمتطلّبات حياته الضروريّة، ولم يقنّن كيفيّة صرف أمواله، خصوصاً إذا كان دخله محدوداً وثابتاً، فسوف يضطرّ إلى الاقتراض، وبالتالي فإنّ القرض يسبّب ضغوطاً تنهك حياة الفرد والأسرة.
ومن هنا، تبرز أهمّيّة إيلاء الأولويّة لبعض الأمور الهامّة في المعيشة. استغلال الوقت والفرص المناسبة من القضايا الهامّة في تعيين الأولويّة بتخصيص الأموال، وما يؤيّد ذلك قول الإمام عليّ عليه السلام: "إِنَّ رأيَكَ لا يَتَّسِعُ لِكُلِّ شَيءٍ، فَفَرِّغهُ لِلمُهمِّ".
ويقول الشيخ الكفعمي رحمه الله: "طُوبى لمن أطاعت نفسه ناصحاً يهديه، وتجنّبت غاوياً يرديه، وقصر همّته على ما يعنيه، وجعل كلّ جدِه لما ينجيه، وطوبى لمن بادر أجله، وأخلص عمله، وقصر أمله، واغتنم مهله"2. وهناك مسألتان هامّتان يجب التأكيد عليهما في هذا المجال، هما:
- لا بدّ من التصرّف بوعيٍ، وكسب معلوماتٍ لازمةٍ، في كيفيّة تسخير الأموال لموردٍ ما، وإنفاقها فيه. فعلى سبيل المثال: يجب العلم بمقدار الموادّ البروتينيّة اللازمة لجسم الإنسان، ومعرفة مصادر هذه المواد ونوعيّتها، فمن خلال هذه المعلومات يمكن للإنسان أن يشتري ما يحتاج إليه من دون إسرافٍ.
- يجب كسب معلوماتٍ بخصوص أسعار البضائع والخدمات التي تقدّم في مختلف الأماكن، بغية اتّخاذ القرار المناسب. وأصحاب الدخل المحدود لو لم يأخذوا هاتين المسألتين بعين الاعتبار، ولم يكن لديهم الاطّلاع الكافي على طريقة الاستهلاك الصحيحة، سوف لا يتسنّى لهم استثمار أموالهم بشكلٍ صحيحٍ، وبالتالي سيواجهون مصاعب في حياتهم.
أمّا الأثرياء، فإنّهم بفقدان هذا التقنين الصحيح من خلال استهلاكهم المُفْرِط، سوف يتعرّضون لأضرارٍ قد لا يكون لها تأثيرٌ بالغٌ على المدى القريب، بل ستظهر آثارها السيّئة على المدى البعيد. فالتدبير الصحيح يقتضي التدرّج في الإنفاق الصحيح، وتعيين الأولويّة في بذل الأموال، ففي بادئ الأمر، يجب الإنفاق في الموارد المهمّة، ثمّ الإنفاق في الموارد الأقلّ أهمّيّةً.
1- أقسام الإنفاق: يمكن تقسيم إنفاق الأموال، وتصنيف ذلك حسب الوقت الذي يتمّ فيه الإنفاق، وحدّ الأموال التي يجب صرفها على المدى القريب
- النّفقات الثّابتة - وعلى المديَين المتوسّط والبعيد.
فالنّفقات الثّابتة، هي الأموال التي يتمّ إنفاقها يوميّاً، مثل: أجور المأكل، والتنقّل، وإيجار المنزل.
والنّفقات التي تُخصّص للاستهلاك في مدّةٍ طويلةٍ نسبيّاً
- على المدى المتوسّط - هي التي لا يتمّ إنفاقها يوميّاً، مثل: ثمن الثياب، والأحذية، وما شابههم.
أمّا النّفقات التي تُخصّص للاستهلاك على المدى البعيد، فهي التي تؤثّر على اقتصاد الأسرة، مثل: شراء منزلٍ، وسيارةٍ، وسائر الأجهزة المنزليّة.
وبالتأكيد لا يمكن توفير هذه النفقات شهريّاً عن طريق الدّخل الشهريّ، لذلك يجب وضع منهجٍ مناسبٍ للنّفقات قريبة الأمد ومتوسّطة الأمد، يمكن من خلاله توفير النفقات بعيدة الأمد.
2- تدوين النفقات: تُعدّ عمليّة تدوين النّفقات من الأمور الهامّة، لأنّها تُمكّن الإنسان من معرفة مقدار ما يحتاج إليه من أموالٍ في حياته، إذ يسعى من خلالها إلى رفع مستوى دخله. ومن هنا، فإنّ رفع مستوى الدَّخل منوطٌ بالسّعي والعمل الحثيث، لذا شجَّع الإسلام على ذلك، بشرط مراعاة الاعتدال والتوازن بين العمل والعبادة.
ومن جانبٍ آخر، فإنّ الظُّروف المحيطة بالإنسان، والأسعار، ومستوى أجور العمل، تُعدّ من الأمور التي تؤثّر على معدّل الدخل، وهي خارجةٌ عن إرادة الإنسان، غير أنّ تغيير مقدار النفقات غالباً ما يكون منوطاً بإرادة الإنسان.
أمّا تدوين النفقات اليوميّة، والأسبوعيّة، والشهريّة، والسنويّة، فيمكّن الإنسان من معرفة مدى الإنفاق المطلوب، وتحليل معطياته، فيعرف ما يحتاج إليه، لتأمين مؤونته، وكذلك يتمكّن من معرفة أهمّيّة هذه النفقات، ومدى تأثيرها على التوازن الماليّ لعائلته. لذا، فإنّ التدوين يعين الإنسان على وضع برنامجٍ مناسبٍ لنفقات العائلة، من أجل ضمان المستقبل.
إنّ الإنسان يكتسبُ الخبرة اللازمة في تنظيم نفقاته من خلال حُسن التدبير، والبرنامج المنظّم لأمور المعيشة، في الموازنة بين متطلّبات الحياة والإمكانيّات المادّيّة المتوافرة، بعد إنفاق ما يلزم. لذلك، فإنّ تدوين مقدار النفقات وتحليلها، من شأنه أن يخفّف الضغط المادّيّ على العائلة ويوصله إلى أدنى مستوىً له، ويقلّص الشعور بالحرمان من السلع والخدمات التي يحتاجها.
كما أنّ استخدام الطريقة الصحيحة في تدوين النفقات، من شأنه أن يُقنِعَ بعض أعضاء العائلة المعارضين لبرنامج الإنفاق المتّبع، وهو بحدّ ذاته يحول دون الإسراف. وهناك مرحلة هامّةٌ في موضوع تدوين النفقات، تتأتّى في نهاية كلّ دورةٍ يتمّ تدوينها، حيث، لا بدّ من الاطّلاع على مقدار النفقات، وتقويم مدى صحّة الإنفاق أو عدمه. فإذا كان الدّخل والإنفاق متوازنين، فهذا يدلّ على أنّ الخطط الاقتصاديّة صحيحةٌ.
ولكن، إذا كان الدخل والإنفاق غير متوازنين، أي كان الإنفاق أكثر من الدخل، يجب حينها تشخيص أسباب عدم الاتّزان، ومعرفة هل إنّه ناشئٌ من التضخّم والغلاء، أم من البذخ في الضيافة، أم من النّفقات غير الضروريّة، أم من سوء التّدبير، أم إنّها ناشئى من أسباب وعوامل أخرى؟ وبعد معرفة هذه الأسباب، يجب التخطيط للمرحلة القادمة، واجتناب الأخطاء التي حصلت، لكي يتسنّى لربّ العائلة إيجاد توازنٍ بين مقدار الدخل والإنفاق، وبالتالي، تحقيق تناسقٍ مطلوبٍ بين أمور المعيشة ومقدار نفقاتها.
وهناك فوائد كثيرة لتدوين النفقات، نذكر منها ما يلي:
- تنظيم مستوى الإنفاق، وتحقيق ضبطٍ اقتصاديٍّ.
- معرفة متطلّبات الحياة، وتحديد الأولويّات اللازمة. -
استثمار الطاقات والإمكانيّات المُتَاحة، استثمارٍ أفضل.
- الحؤول دون إهدار الطاقات والثروات المادّيّة.
- اجتناب الإسراف والتبذير.
- معرفة قيمة النعمة.
- تمهيد الأرضيّة اللازمة للادّخار.
- الرقيّ مادّيّاً ومعنويّاً.
- تنامي روح القناعة لدى الإنسان.
- حصول توازنٍ بين الدخل والنفقات.
وقد عُبّر عن التدوين في الأحاديث الشريفة، بالتقدير والتدبير، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "التَّقدِيرُ نِصفُ العيشِ".
وكما روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسنُ التَّدبيرِ". إذن، تدوين النفقات في مجالات الإنفاق العامّة - وكذلك الخاصّة -، ووضع برنامجٍ صحيحٍ لمداولة الأموال في إطار نظامٍ اقتصاديٍّ فرديٍّ وجماعيٍّ على جميع المستويات، يعدّ حلّاً ناجعاً للمشاكل الاقتصاديّة.
من كتاب فن التدبير في المعيشة