إنّ الرقابة على إنفاق الأموال تُعدّ من الأمور الهامّة في مجال تدبير شؤون المعيشة، وقد تكون أهميّتها أكثر من الإنتاج أحياناً. والمقصود من رقابةٍ كهذه هو تحديد صرف الأموال بمستوىً يتناسب مع دخل الفرد أو المجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار واجتناب الإسراف، والتبذير، وعدم إتلاف المال بأيّ طريقةٍ كانت، مع مراعاة أحوال الأجيال اللاحقة في الإنفاق، بغية إيصال المجتمع نحو التقدّم والرقي.
فالنبيّ يوسف عليه السلام عندما تولّى إدارة الشؤون الاقتصاديّة في مصر، أشرف على الأموال والمحاصيل في السنوات السبع ذات النعمة الوفيرة إشرافاً دقيقاً، فتمكّن من ادّخار أكبر قدرٍ ممكنٍ من المحاصيل الزراعيّة لسنوات الجدب. وحسب ما أشارت إليه بعض الروايات، فإنّه عليه السلام تجاوز محنة سنوات الجدب، وجنّب الناس القحط والمجاعة، من خلال حسن تدبيره في القضاء على الاستثمار الطبقيّ في المجتمع،
وإزالة الفواصل بين فئات المجتمع المصريّ فمن خلال الإشراف بدقّةٍ على إنفاق الأموال في سنوات الخير السبعة، تمكّن من ادّخار مقادير عظيمةٍ من المحاصيل الزراعيّة لسنوات الجفاف والجدب.
فبحسن تدبيره وإدارته الصحيحة قام بمعاوضة المحاصيل الزراعيّة في سنوات القحط مع الدراهم، والدنانير، والمواشي، والغلمان، والجواري، والدور، والأراضي الزراعيّة، ثمّ بعد ذلك أعاد هذه الأموال والممتلكات إلى أهلها بشكلٍ عادلٍ، لأنّ هدفه كان إنقاذ أهل مصر من المجاعة والبلاء
إنّ النبيّ يوسف عليه السلام في الواقع لم يكن مجرّد مفسّرٍ للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، حيث قدّم مقترحاً من عدّة موادٍّ لخمسة عشر عاماً على الأقلّ. وكما سنرى، فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته، وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وخلاص يوسف من سجنه، وإخراج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى.
من كتاب فن التدبير في المعيشة