إن وجود الحق والباطل ومعرفة تأثير كل منهما في تقرير مصير الفرد والمجتمع، يفرض علينا الآن أن نفكر جيداً: كيف يجب أن نكون أمام الحق والباطل؟
وعلى أي أساس نتخذ مواقفنا لكي نبلغ النضج والتكامل الحقيقي؟
ان الإجابة الصحيحة والشافية عن هذه الأسئلة يطرحها "نهج البلاغة" ضمن المواضيع الاتية:
1 ضرورة الوعي: ترتبط درجة نضج الفرد والمجتمع وتكاملهما ارتباطاً كاملاً بدرجة وعيهما ومعرفتهما الحق والباطل والحقائق، فالصحة النفسية والأخلاقية للفرد والمجتمع شأنها شأن الصحة والسلامة الجسدية فهي ترتبط مباشرة بمعرفة عوامل الصحة وسبل مكافحة الأمراض المختلفة. اذن، ينبغي قبل كل شيء التوصل الى المعرفة والوعي اللازم. يقول الإمام علي عليه السلام:"وَكَفى بِالمَرءِ جَهْلاً أَلاّ يَعرِفَ قَدرَهُ". (9)
2 التزام الحق: بعد معرفة الحق من الباطل واكتساب الوعي اللازم، علينا التزام الحق والحقيقة والابتعاد عن الباطل. ان التزام الحق يعني السعي اليه والعمل به وعدم الخوف من أية مشاكل تقف على هذا الطريق. قال الإمام عليه السلام:"أَفْضَلُ النّاسِ عِندَ اللّهِ من كانَ العَمَلُ بِالحَقِّ أَحَبُّ إِلَيهِ وَإنّ نَقَصَهُ وكَرّثَه، مِنَ الباطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيهِ فائِدَةً وَزادَهُ"10.
وفي عبارة أخرى يعلمنا أن الحق والحقيقة يجب ان يتخذا أساساً لعمل الانسان لكي ينال السعادة، فهو عليه السلام يقول:"... وَلْيَكُن أحَبُّ الأُمُورِ إِلَيكَ أَوْسَطُها في الحَقِّ وَأَعَمُّها في العَدلِ".(11)
3 العمل: لا يكفي، في نظر "نهج البلاغة" معرفة الحق والحقيقة والميل اليهما، بل يجب أيضاً السعي للعمل بالواقع وتحقيقه وتطبيق الحق، والامتناع عن رفع الشعارات فقط. يقول الإمام علي عليه السلام:"... وَاللّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن إِمْرَتِكُم، إِلاّ أَنْ أقيمَ حَقّاً أَو أَدفَعَ باطِلاً"12.
4 مقارعة الباطل: بعد معرفة الباطل، يجب العمل من أجل مكافحته والقضاء عليه واستئصال جذروه لكي يمهد السبيل أمام تحقيق الحق ويتسع المجال لتحقق النضج والتكامل، يقول الإمام عليعليه السلام:"وَأَيمُ اللّهِ لأَبقُرَنَّ الباطِلَ حَتّى أُخرِجَ الحَقَّ مِن خاصِرَتِهِ"13.
5 الانصياع للحق والحقيقة: بعد معرفة الحق والحقيقة، لا بد من التزامهما وتحقيقهما، ويجب عدم رفع لواء معارضة الحق والحقيقة، أو مناوءة القوانين السائدة في نظام الخلق، يقول الامام علي عليه السلام:"مَنْ أبدى صَفْحَتَهُ للِحَقِّ هَلَكَ"14. بعد ذلك يشير الى زوال القيم وانهيارها لدى الأمم السالفة فيقول عليه السلام:"... فَإِنّما أَهَلَكَ مَن كانَ قَبلَكُمْ أَنَّهُمْ مَنعُوا النّاسَ الحَقَّ فاشتَرَوهُ، وَأَخَذُوهُم بالباطِلِ فَافْتَدَوهُ"15.
6 التحرك ضمن حدود الحق: بعد معرفة الحقائق والانصياع للحق، علينا ادراك حقيقة أساس مفادها أن الحركة التكاملية لا تتحقق إلا ضمن حدود الحق وفي إطاره، ولن تكون نتيجة أي صراع مع الحق، أو تقدم عليه، أو تجاوزه إلاّ الهلاك والتعاسة، لذا لا بد من معرفة حدود الحق والحقيقة، واحترامها. يقول الإمام علي عليه السلام:"مَنْ تَعَدَّى الحَقَّ ضاقَ مَذهَبُهُ"16.
7 محاربة انصار الباطل: مثلما كان علينا القضاء على الباطل، ومكافحة المفاسد، علينا أيضاً محاربة انصار الباطل ومكافحتهم، لكي لا يتمكنوا من طرح الباطل من جديد، واشاعة الأفكار الباطلة، يقول الإمام علي عليه السلام:"... وَلَعَمري ما عَلَيَّ مِن قِتالِ مَن خالَفَ الحَقَّ وَخابَطَ الغَيَّ مِن إدهانٍ وَلا إيهانٍ"17.
8 معرفة مُثلُ الحق الكاملة: بعد معرفة الحق والباطل، فإن لمعرفة مثل الحق الكاملة اثاراً تربوية كثيرة، لأن الناس بحاجة الى المثال الكامل الحق في عملية بناء الذات واصلاح السلوك الفردي والاجتماعي، اذ باطاعته واتباعه يبلغ السعادة وينجو من الانحراف. والامام علي عليه السلام يصف بهذا الشأن نبي الإسلام والأئمة الحقيقيين بأنهم مُثل الحق الكاملة، فيقول:"... أَرسَلَهُ داعِياً إِلى الحَقِّ وشاهِداً عَلَى الخلقِ"18.
ويقول عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:"وَبَينَكُم عِترَةُ نَبيكُم وَهُم أَزِمَّةُ الحَقِّ وَأَعلامُ الدّينِ"19.
وبذلك لن يواجه البشر مشكلة في السير على طريق التكامل ومحاربة الباطل والزيف، اذ ان الحق والحقيقة قائمان، ومعرفتهما أمر ممكن، كما أن مثل الحق الكاملة تدلنا دوماً على الفضائل وتحذرنا من الرذائل، وتدل البشرية على سبيل اتباع الحق ومقارعة الباطل. يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن:"الذّليلُ عِندِي عَزِيزٌ حَتّى اخُذَ الحَقَّ لَهُ، وَالقَويُّ عِندي ضَعِيفٌ حَتى اخُذَ الحَقَّ مِنه"20.
* كتاب الحق والباطل في نهج البلاغة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.