الإنسان كائن اجتماعي بالطبع، وهو يشعر بالحاجة إلى فرد من نفس نوعه يبثه همه ويرافقه في رحلته عبر الحياة أو يقف إلى جانبه وقت الشدائد فيحس فيها بالراحة والطمأنينة ، وهو بعد كل هذا حاجة طبيعية للتكامل الإنساني، وبدون ذلك يراوح الإنسان في مكانه أو يتراجع إلى الوراء.
وعلى هذا، فإن حياة المرأة أو الرجل ستكون في غاية الصعوبة بدون الزواج، فحالة العزوبية هي حالة القلق وعدم الاستقرار، ولذا فإن نداء الزواج نداء ينبعث من أعماق الإنسان وان الإقدام عليه هو تلبية لحاجة فطرية وطبيعية موجودة في التكوين البشري. وبالرغم من كل ذلك فإن التعايش في الحياة المشتركة للزوجين قد تخلق بعض التصادم وعدم الانسجام، ولذا فينبغي إرساء العلاقة على أساس من معادلة الحقوق والواجبات المتبادلة، كما أن عقد الزواج يختلف عن غيره من العقود فهو يمتاز بقدسية خاصة تجعله في منزلة سامية حتى أن العرش الإلهي ليهتز لدى إلغاء هذا العقد بالطلاق لما في ذلك من الآثار والأضرار والخسائر المدمّرة التي تنجم عنه أو تترتب عليه
مسألة الطلاق
يؤدي النزاع بين الزوجين في بعض الأحيان إلى التفكير بالإنفصال والطلاق، وقد يحدث أحياناً أن يكون التفكير في ذلك من جانب الرجل أو المرأة أو باتفاق الاثنين معاً.
لو كانت الحياة المشتركة عقداً غير قابل للفسخ إلى الأبد فإن حالة النزاع المستمرة وغياب الانسجام سوف يحوّل الحياة الزوجية إلى جحيم لا يطاق، وعندها سوف يجد أحد الطرفين نفسه محطماً تعصب بآماله وأحلامه رياح الزمن فتبددها هنا وهناك وستحيله إلى إنسان خاو خال من العاطفة والإحساس ، وقد تتصاعد حدّة الاختلاف والتوتر إلى موت أحد الطرفين عمداً أو خطأ أو بطيئاً، مما يوسع من دائرة الألم لتتعدى محيط الأسرة إلى المعارف والأقرباء، حيث تبقى آثار ذلك مدّة من الزمن.
هواجس الطلاق
قد يكون الطلاق في بدايته حلاً جذرياً للعديد من المشاكل الزوجية، ولكن الطلاق ينطوي على شرور ومآس لا يمكن إسقاطها من الحساب.
إن اعتبار الطلاق حلاً مثالياً هو خطأ كبير يرتكبه العديد من الأزواج حتى بعد إقدامهم على الزواج مرّة أخرى. وقد أشار مسح ميداني أجري على مئة حالة طلاق اعتبر الغالبية فيها الطلاق أكبر خطأ ارتكبوه في حياتهم وأكد أكثرهم أيضاً على أنهم شعروا بالارتياح قد خامرهم في الأيام الأولى من الطلاق ولكن سرعان ما تبدد ذلك ليحل محله شعور عميق بالندم ، ذلك أن الطلاق لم يحل المشكلة أبداً حتى مع تجدد زواجهم.
وساوس الانفصال
وبعد أن يتم الطلاق ويفترق الزوجان تبدأ مراجعة النفس، ويبدأ تأنيب الضمير والتفكير في العوامل التي أدّت إلى انهيار ذلك البناء، وفي أولئك الذين حوّلوا الأسرة إلى مجرد أنقاض، وعندها تصبّ اللعنات تلو اللعنات على الذين وسوسوا لهما بذلك وحببوه إليهما. حتى أولئك الذين اندفعوا لحماية الزوجة أو الزوج ومن نوايا حسنة، لن يسلموا من تحمل المسؤولية وتحسين الطلاق في ذهن المرأة أو الرجل، خاصة إذا كانت الحالة في زيجة عمرها شهور فقط ، فالشباب مهما بلغوا من النضج ليست لديهم التجربة الكافية، فلا ينبغي لأيّ كان أن يتدخل في شؤونهم الخاصّة ويشجعهم على اتخاذ قرار خطير كالطلاق.
ومسكينة تلك الفتاة وذلك الشاب عندما تصور الوساوس لهما بأن الطلاق فكاك من القيود وتتحول كلمات الآخرين المسمومة في خيالهم إلى طريق للحل ونافذة للخلاف. تنطوي الاستهانة بالزواج كرباط مقدس إلى استسهال الطلاق ومن ثم ضرب كل الاعتبارات الإنسانية عرض الجدار، ولذا فإن مثل هؤلاء الأفراد لا يرون سوى أنفسهم ومصالحهم دون أدنى اهتمام بالآخرين، ناهيك عن أن جنوحهم نحو الطلاق سيلحق الضرر بأنفسهم هم أيضاً بالرغم من عدم إدراكهم ذلك إلاّ بعد فوات الأوان.
إن الإقدام على الطلاق إنطلاقاً من الأهواء النفسية فقط، لا يتناقض مع الدين والعقل فحسب بل مع النمو والتكامل الإنساني، ذلك أن الأهواء النفسية لا يمكن أن تكون طريقاً لبناء شخصية الإنسان.
مبغوضية الطلاق
قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " ما أحلّ الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق ". وبالرغم من حلّية الطلاق إلا أن الأحاديث والروايات تحذر من الطلاق وتعتبره عملاً شائناً لا ينبغي القيام به حتى لو تم الأمر برضا الزوجين.
وإذن فإن الحسابات الإلهية لا دخل لها برضا الطرفين أو عدمه، فالطلاق يبقى إجراء لا يحظى برضا الله سبحانه أبداً، ذلك أن الزواج يعني اتحاداً كاملاً بين الرجل والمرأة.. اتحاداً يصل حد الاندماج والانصهار في بوتقة واحدة. ولذا فإن إجراء أو عملا يفكك من هذا الاتحاد المقدس ويقضي عليه سوف يكون مبغوضاً ومؤلماً.
آثار الطلاق
قد يبدو الطلاق في نظر الزوجين باباً للخلاص من الجحيم الذي صنعاه بأيديهم، ولذا نراهما يتنفسان الصعداء عند افتراقهما، ولكن هل يمكن أن تمضي الأمور بهذه السهولة ؟ هل يمكن للزوجين أن ينسيا كل تلك الذكريات واللحظات الجميلة التي عاشاها معاً والأماكن التي زاراها معاً ؟!
إن الحياة الزوجية ليست تجربة عادية. إنها تجربة شاملة يعيشها الإنسان بكل جوارحه ومشاعره. وإضافة إلى كل ذلك فإن الطلاق لا يمكن اعتباره شأنا شخصياً كما هو الزواج الذي تم بمباركة وسعي العديد من الأصدقاء والأقرباء، وإذن فإن الطلاق سوف يمسهم جميعاً ولا يمكن ضرب عواطف ومشاعر من يهمهم الأمر عرض الجدار.
إن الطلاق يضع المرء أمام المسؤولية وجهاً لوجه، وعليه أن يقدم جواباً مقنعاً لأبنائه، وهو الضحية الأولى لقرار كهذا. ولا ننسى ـ أيضاً ـ أن الطلاق لا يضع خاتمة للمشاكل بل إنه في أغلب الأحيان بداية سيئة لمشاكل ومتاعب أكثر تعقيداً من ذي قبل.
وصايا في ترك الطلاق
تزخر الروايات والأحاديث الشريفة بالنهي عن الطلاق، ويصب أغلبها في نصح الرجل بعدم الإقدام على الطلاق ودعوته إلى مداراة المرأة والإحسان إليها وعدم الإساءة في معاملتها. قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " إن الله يبغض ـ أو يلعن ـ كل ذوّاق من الرجال وكل ذوّاقة من النساء ".
ولا يقتصر هذا الحديث، كما هو واضح، على الرجال فحسب بل ويشمل النساء أيضاً. إن هذا التشديد الذي نلمسه في الإسلام بعدم الطلاق يعود إلى الاعتقاد بقدرة الزوجين على تجاوز خلافاتهما وقلب صفحة الماضي والبدء بحياة جديدة.. حياة مفعمة بالحب والتفاهم والإيمان، إن الإسلام يؤمن بقابلية الإنسان وانطوائه على قدرات لا محدودة في حل ما يواجهه من المشاكل والمتاعب، فكيف إذا كانت المسألة تخص الأسرة وقد أودع الله في هذا الرباط المقدس نبعاً من المودة والحب ؟! حلّية الطلاق
بالرغم من التشديد الذي نلمسه في الشريعة الإسلامية بعدم الطلاق، إلا أنها لم تحرّمه أبداً وأبقت الباب مفتوحاً إذا تعذرت الحلول وعجزت العلاجات، ذلك أن الإسلام يمنح الأصالة لكرامة الإنسان امرأة كانت أو رجلاً ، وإذن فإن جميع تلك النواهي والتحذيرات تتوقف إذا تعلقت المسألة بالدين لأنه القيمة العليا في حياة الإنسان، فإذا كان استمرار الزواج يعني انهياراً أخلاقياً وسقوطاً دينيّاً فإن الباب مفتوح للخلاص والنجاة، وإذن فإن الطلاق يعني هنا نوعاً من العمليات الجراحية التي لا بد من إجرائها وبتر العضو الفاسد من أجل حماية الجسد من سراية المرض.
ومهما بلغ الزواج من قدسية فإنه لا يعني قدراً محتوماً لا يمكن لإنسان الخلاص منه، فعندما يشعر المرء باستحالة الحياة الزوجية وانه لسبب أو لآخر لا يمكنه الاستمرار في ذلك فإن الله سبحانه قد فتح الباب لمن يعيش مثل هكذا حالة وأعلن أن ذلك لا يبرر للرجل أو المرأة انتهاج الأساليب الملتوية لحمل الطرف الآخر على طلب الطلاق، فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
وإذن فلا يسوغ للرجل أو المرأة أن يؤذي أحدهما الآخر أو محاربته أو التشهير به من أجل حمله على الطلاق. وفي مثل هكذا حالة على المرء أن يتحلى بالشجاعة والشهامة والإنسانية.
المرأة والطلاق
إذا كانت حلاوة الزواج قابلة للوصف فإن مرارة الطلاق أمر لا يمكن إدراكه إلاّ من قبل أولئك الذين خاضوا تلك التجربة المرّة. لقد أصبح الطلاق ظاهرة اجتماعية خطيرة تهدد أمن وسعادة المجتمعات اليوم، ولذا نرى اهتماماً بمعالجة هذه المشكلة من كافّة المستويات، فالدول والحكومات تسعى من أجل وضع حدّ لتنامي هذه الظاهرة لما لها من الآثار السيئة في البناء الاجتماعي، ذلك أن الأسرة هي حجر الأساس في هذا البناء وعليها تتوقف متانته واستقامته. فالطلاق هو بداية الانحراف والسقوط في الهاوية المخيفة،
حيث الفساد الأخلاقي والأمراض النفسية والضياع الشامل للإنسان. وما أكثر أولئك الذين سقطوا وتاهوا في دروب الحياة فعاشوا الضياع وبقوا على هامش الحياة إلى أن لفظتهم كما يلفظ البحر الجثث الهامدة. وإذا كان الجميع خاسرين في الطلاق فإن المرأة تعتبر الخاسر الأكبر ذلك أنها أكثر عاطفة، فهي مرهفة الإحساس، عميقة المشاعر، تحتاج إلى من يمنحها الشعور بالأمن والسلام. ولذا فإن على المرأة أن تكون أكثر وعياً لهذه المسألة وأن تكون أكثر صبراً ومقاومة وسعياً من أجل استمرار الحياة الزوجية بأي ثمن، وعليها يتوقف أمن أطفالها وضمان تربيتهم تربية صالحة.
المصدر:*الأُسرة و قضايا الزواج،الدكتور علي القائمي،دار النبلاء،لبنان، بيروت،ط1ـ1414هـ 1994م،ص141ـ146.