من كتاب إحياء عاشوراء لماذا؟
للشيخ مصباح اليزدي
ها قد اكتملت اليوم السنة الثانية والعشرون من عمري, ولا زلت أواصل دراستي التي أهواها كثيراً في فرع التاريخ, لكنني أشعر ـ وبثقة تامة ـ أنّ عقلي أكبر بكثير من هذا السن, بل لا أبالغ لو قلت: إن لي عقلاً كعقل الشيوخ, لكن همتي وعنفواني وبحمد الله همة الشباب وعنفوانه, ولا أنكر أنّ الفضل في عمق تفكيري وسعة عقلي يرجع إلى الله تعالى الذي رزقني ذلك الصديق الصدوق... أجل إنه صديقي الحميم (سعيد), بل أخي الذي يكبرني بخمس عشرة سنة, لكنه لم يُشعرني يوماً بأنه أكبر مني. أجل أعطاني (سعيد) من تجاربه وعقله النيّر ما استطعت به أن اختزل الزمن, ولا أخطأ لو قلت: إنه معلمي في مدرسة الحياة, وصدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث يقول: (من دعاك إلى الدار الباقية وأعانك على العمل لها فهو الصديق الشفيق). ولا أنسى حين لقيته قبل سبع سنين تقريباً في مسجد محلتنا بعد صلاتي الظهر والعصر, ولفت انتباهي حينها ما عليه من الوقار والهيبة وقلة الكلام.
ولا أنسى حينها إذ كان الحاج (حسين) خادم المسجد يومها منهمكا في اكساء المسجد بالقماش الأسود وتثبيته على الجدران, فتساءلنا فيما بيننا - وكنا حينها شباباً في مقتبل العمر- لماذا يقوم الحاج (حسين) بهذا العمل؟ لماذا سيرتدي مسجدنا قميصه الأسود؟ بل علينا ـ نحن أيضاً ـ أن نلبس ثياباً سوداء؛ لأن شهر محرم الحرام قد أقبل؛ فلماذا سنقوم بهذا العمل؟ كما ستبدأ بعد يومين مجالس العزاء واللطم على الصدور, وسيعم البكاء والحزن والسهر إلى منتصف الليالي؛ فلماذا كل هذا؟ لقد أجاب أحد الفتية في حلقتنا التي عقدناها في المسجد قائلاً: ألا تعلمون أن كل هذا لأجل مصاب الإمام الحسين (عليه السلام) الذي هو ابن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ إذ إنه قتل مع أهل بيته وصحبه, وسُبيت نساؤه في مثل هذه الأيام, قبل أكثر من 1360 سنة, فنحن نحيي هذا المصاب الأليم اكراماً لهم.
وقال آخر: سمعت أبي يقول: إنّ المسلمين جميعاً رووا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكى على الحسين (عليه السلام) حينما أخبره جبرائيل بأنه سيقتل في كربلاء, وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعظمته بكى على الحسين قبل شهادته فكيف بنا نحن المسلمون المأمورون باتباع النبي؟! وتابع أبي كلامه قائلاً: إنّ الصحابي ابن عباس رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام يوم قتل الإمام الحسين (عليه السلام)؛ أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه, قال (ابن عباس): يا رسول الله ما هذا؟ قال: (دم الحسين وأصحابه لم أزل اتتبعه منذ اليوم).
وقال آخر: إنّ إحياء ذكرى عاشوراء هو من احياء أمر أهل البيت عليهم السلام الذي ذكرته الروايات, كما هو احياء لأمر الدين الحنيف. أما أنا فمع كوني لا أشك في هذه الأجوبة وعظمتها لكنني كنت أحب الاطلاع أكثر فأكثر, فارتسمت على ناظريّ علامات القبول الممزوجة بشيء من الاستفسار طالباً للمزيد.
كان (سعيد) ـ ذلك الإنسان الرائع ـ جالساً يترقب ما نقول, وما أن وقعت عيني على عينيه فَهِمَ ما في نفسي, وقد ساعده على هذه الصفة تخصصه في علم النفس الذي مزجه مع إيمانه, فكان نوراً على نور, إذ إنه أكمل دراسته الجامعية في هذا الاختصاص. قام (سعيد) من مقامه وتقدم نحونا بخطوات متئدة وهو بادي البسمة قائلاً: عذراً أيّها الإخوة الأعزاء لقد سمعت حديثكم لا عن فضول منّي فهل تأذنوا لي بمشاركتكم؟ تهللت وجوهنا جميعاً إذ لم يُعهد من (سعيد) أن شاركنا يوماً حديثاً، وكم كنّا نتمنى أن نتعرّف عليه من قرب, لكن فارق السن بيننا يحجزنا عن ذلك, فقلنا جميعاً: على الرحب والسعه أيّها الأخ الكبير. فقال: اسمي سعيد وبيتي في الجهة المقابلة لمحلتكم. فبادرته قائلاً: نحن نعرفك من مواظبتك على صلاة الجماعة ونحب أن نتعرف عليك, أما نحن: فأنا اسمي (محمد), وهذا جاري وصديقي (ياسر), وهذا جارنا (حسن), وهذا (كمال). فتبسّم سعيد قائلاً: لقد سمعت أسئلتكم حول عاشوراء ومراسم العزاء في محرم الحرام, وسمعت الأجوبة عليها, فهل ترغبون أن نواصل الحديث؟ قلنا كلّنا معاً: أجل لا بأس, فهو حديث ممتع ونحن لم نوسعه علماً.
قال: استميحكم عذراً, إنّ أسئلتكم المتقدمة حول اقامة عزاء سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) يمكن لي أن أقسمها إلى أربعة أسئلة, تعميقاً للموضوع, ولكن دعوني أبدأ بمقدمة مختصرة فأقول: بعث الله تعالى نبيه محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الناس وارشادهم إلى طريق الحق والسعادة في الدنيا والآخرة, ولقد حدّد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أركان الهداية بأمرين لا ثالث لهما وهما: (كتاب الله, وعترته أهل بيته). وهذا مما اتفق عليه المسلمون في الحديث الصحيح بل المتواتر عند الجميع الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (يا أيّها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله, وعترتي أهل بيتي).
لكن أغلب الأمة ـ مع الأسف ـ تركت أهل البيت ولم تتمسك بهم, وبذلك فقد فارقت ركناً أساسياً من ركني الهداية, الأمر الذي أدى إلى ظهور الانحراف في المجتمع بصورة تدريجية, فصارت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي هي من أهم الواجبات الدينية حبراً على ورق, من دون أن يجرأ أحد على تطبيقها أو الحديث عنها, فوصل الأمر إلى أن يعتلي منصة الحكم ويتربع على عرش الدولة أمثال يزيد بن معاوية, الشارب للخمر, والمتجاهر بالمعاصي والكبائر من الذنوب, حتى أن الله تعالى بتر عمره ولم يحكم إلا ثلاث سنين, ففي الأولى قتل الإمام الحسين (عليه السلام) , وفي الثانية هجم على المدينة المنورة وقتل أكثر من سبعين صحابياً وسبعمائة تابعي في وقعة (الحرة), وفي الثالثة حاصر الكعبة ورماها بالمنجنيق فهدمها.
المهم ـ يا أخوتي ـ إنّ الحسين (عليه السلام) عندما رأى أنّ معاوية بن أبي سفيان نصّب ولده يزيد خليفة على المسلمين قام بثورته العظيمة ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ويحرك ضمير الأمة؛ ليعيد شجرة الإسلام غضة طرية, يسري في عروقها تعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) , فنراه ينادي حين خروجه إلى كربلاء: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً, إنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) , أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر...). فأراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يرفع بدمه ودم أولاده وأخوته وأصحابه علماً للهداية, ومناراً لكل من ينشد الاصلاح ويرفض الفساد والظلم عبرالأجيال. أما الأسئلة الأربعة التي فهمتها من سؤالكم المتقدم فهي: أولاً: السؤال الأول. تابع سعيد حديثه قائلاً:
أما السؤال الأول فهو:
لماذا يجب احياء ذكرى حادثة وقعت قبل أكثر من (1360) عاماً؟
فهي واقعة وقعت في زمن قديم طوته الأيام والسنون, فما المسوغ لإعادة ذكرها في الوقت الحاضر؟ والجواب على هذا السؤال ليس بالأمر الصعب؛ إذ إنه واضح لكل من يتأمل قليلاً, أفلا ترون أن تعظيم الحوادث الماضية واحترامها من الأمور التي دأبت عليها جميع الأمم على وجه الأرض, سواء أكانت تلك الحوادث مرتبطة بأشخاص كان لهم دور في التقدم العلمي للمجتمع كالعلماء والمخترعين, أم كانت متعلقة بأشخاص كان لهم دور في انقاذ مجتمعاتهم سياسياً واجتماعياً؛ فإعادة ذكرهم إنّما هو من باب العرفان بالجميل لهذه الشخصيات, وعرفان الجميل من الأمور الفطرية التي أوجدها الله تعالى في النفس البشرية, فكل واحد منا يحترم من أحسن إليه وخدمه.
كما يمكننا ـ أيّها الشباب ـ أن نقول: إنّ الحوادث العظيمة التي حدثت في تاريخ أي مجتمع لها آثار لا يمكن أن تُنكر لمستقبل ذلك المجتمع, فتجديد الذكرى لهذه الحوادث هو في واقعه اعادة قراءة لتلك الحوادث كي ينتفع الناس بها, بل إنّ محاكاة تلك الحادثة له من البركات أضعاف ما يكون لنفس الحادثة حين وقوعها. ونحن ـ أيّها الأعزاء ـ نعتقد بأن حادثة عاشوراء حادثة عظيمة في تاريخ الإسلام, ولها دورٌ أساسيٌ في تحديد طريق الهداية للناس, وتمييز الحق من الباطل, لذا فإنّ في إحيائها بركات لا تحصى على مجتمعنا في هذا العصر.