السيدة الجليلة آمنة بنت وهب بن عبد مناف سليلة الأُسرة المباركة من القبيلة ذات الشأن العظيم التي استأثرت وحدها بخدمة البيت العتيق وما نالها من خدمته من أمجاد وامتيازات ، لقد كانت آمنة أفضل امرأة نسباً وموضعاً حيث امتازت بالذكاء وحسن البيان
نشأة السيدة آمنة
نشأت السيدة (آمنة) في أعزّ بيئة وأطيب منبت ، فاجتمع لها من أصالة النسب ورفعة الحسب ما تزهو به في مجتمع مكّة المتميِّز بكرم الأصول ومجد الأعراق ، فقد كانت زهرة قريش اليانعة ، وبنت سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، وقد ظلت في خدرها محجوبة عن العيون مصونة عن الابتذال حتىٰ ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها أو يتمثّلونها في صباها الغض.
شمائلها وصفاتها عليهاالسلام :
كانت من أحسن النساء جمالاً ، وأعظمهن كمالاً ، وأفضلهن حسباً ونسباً ، وكان وجهها كفلقة القمر المضيء ، وقد وصفها أمير المؤمنين علي عليهالسلام : قائلاً : « والله ما في بنات مكّة مثلها ، لأنّها محتشمة ونفسها طاهرة مطهرة ، عفيفة أديبة عاقلة ، فصيحة بليغة ، وقد كساها الله جمالاً لا يوصف ». والحق : إنّ السيدة آمنة كانت من أكابر النساء ، ومن أشراف النسوة _____________ المكرّمات وكل ما يذكره المؤرّخون عنها سلام الله عليها أنّها كانت : (أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً) ، ولهذا أشار في حقّها العباس بن عبد المطلب عليهالسلام قائلاً : كانت ـ آمنة ـ من أجمل نساء قريش وأتمّها خُلقاً
خطوبتها عليهاالسلام :
لقد عَرفت السيدة (آمنة) في طفولتها وحداثتها ابنَ عمّها (عبد الله بن عبد المطلب) حيث إنّ بني (هاشم) كانوا أقرب الأُسر جميعاً إلىٰ بني (زهرة) فجمعتهم أواصر الودّ القديم التي لم تنفصم عراه منذ عهد الشقيقين قصي وزهرة ولَدَي كلاب بن مرّة.هكذا عرفته قبل أن ينضج صباها ويحجبها خدرها ، والتقت وإيّاه في الطفولة البريئة علىٰ روابي مكّة وبين ربوعها وفي ساحة الحرم الآمن ، كما جمعتهما مجامع القبيلة ، إذ كان عبد المطلب سيد بني هاشم ، ووهب سيد بني زهرة يتزاوران ويجتمعان علىٰ ودّ ، وكذا يجتمعان كُلّما أهمّهُما وأهمّ قريش معضل ، ثمّ حجبت السيدة (آمنة) حين لاحت بواكير نضجها في الوقت الذي كانت فيه خطوات (عبد الله) تسرع من مرحلة الصبا إلىٰ غض الشباب.
وأما زواجهما عليهماالسلام (السيدة (آمنة) بابنَ عمّها (عبد الله بن عبد المطلب))
كان ليلة الجمعة المصادف عشية عرفة ، فما أعظم تلك المناسبتين وما أعظم العروسين ! فهنيئاً لك يا آمنة ، لقد ظفرت بمن تقطّعت قلوب سيدات مكّة من أجله !! ويذكر بودلي (٣) صاحب (كتاب الرسول) عن فتى هاشم : إنّ عبد الله اشتهر بالوسامة ، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرا وذيوعَ صيتٍ في مكّة ، ويقال انّه لمّا خطب السيدة (آمنة) تحطّمت آمال قلوب الكثيرات من سيدات مكّة اللاتي كُنّ يؤمّلنه ! الأمر الذي يشير إلىٰ كون عبد الله عليهالسلام يوسف قريش في اتزانه وجماله.
كراماتها :
لا يخفى أنّ أُم الرسول صلىاللهعليهوآله لا تحصىٰ كراماتها ، كيف وقد حملت في أحشائها أشرف الخلق والكائنات في الوجود الذي دنا فتدلّىٰ فكان قاب قوسين أو أدنىٰ ، وقد وردت جملة من الأحاديث المشيرة إلىٰ طهارتها عليهاالسلام : كقوله صلىاللهعليهوآله : « لم أزل اُنقل من أصلاب الطاهرين ، إلىٰ أرحام الطاهرات ، حتىٰ اسكنتُ في صلب عبد الله ورحم آمنة بنت وهب »
حملها بسيد الكائنات محمّد صلىاللهعليهوآله :
أجل تمَّ زواجهما عليهماالسلام وسرعان ما بانت البشرىٰ لهما ، حيث نامت السيدة آمنة ليلتها وعبد الله إلىٰ جانبها ساهر يقظان يرقب نور الفجر الوليد ، حتىٰ إذا دنا الصبح استيقظت العروس (آمنة) من نومها الهنيء وأقبلت علىٰ زوجها تحدّثه عن رؤياها : رأت كأنّ شعاعاً من النور انبلج من كيانها اللطيف يضيء الدنيا من حولها حتىٰ انّها لترىٰ قصور بصرىٰ في الشام ، وسمعت هاتفاً يهتف بها : لك البشرىٰ فانّك حملت بسيد هذه الاُمّة (٣). وبقي عبد الله مع عروسه الميمونة عدّة أيّام ، وقيل عشرة أيام (٤) ، وكان يشعر أنّ عروسه آمنة تحمل له جنينه الغالي ، وقد بدت لعينيه في تلك اللحظات داخل إطار من نور مقدّس ووسط هالة من الاشعاع السماوي ، ولكنه كان مضطرّاً إلىٰ السفر وهو علىٰ أمل اللقاء القريب ! إذ كان عليه أن يلحق بقافلة قريش التجارية المسافرة من مكّة المشرفة إلىٰ مدينة غزّة بفلسطين ثمّ الشام ، فسافر عليهالسلام مودّعاً زوجته الحبيبة حيث أخبرها أنّ سفرته ليست طويلة ، وإنّما هي بضعة أسابيع ! وقد مضىٰ شهر واحد ولا جديد فيه سوىٰ أنّ السيدة (آمنة) شعرت بالبادرة الاُولىٰ للحمل ، وكان شعورها به رقيقاً لطيفاً. أمّا خبر حمل السيدة آمنة بوليدها ، ففي ديار الحجاز كانت قد علمت الكهنة بذلك نظراً لكثرة هطول بركات السماء وبزوغ بركات الأرض ، حيث إنّ العرب كان قد أصابها قحط ومخمصة ، وعند حمل السيدة بوليدها صلىاللهعليهوآله نزل المطر وكثرت النعم عليهم حتىٰ سميت تلك السنة بسنة الأنقع (٣).
وفاة زوجها عليهالسلام :
سافر عبد الله عليهالسلام إلىٰ الشام علىٰ أمل العود إلىٰ عروسه الميمونة ، فلمّا وصل إلىٰ يثرب مرض هناك ومات ، وقيل : مات بالأبواء بين مكّة والمدينة ، ومضىٰ شهر واحد ولم تسمع شيئاً عن خبره ، وأخيراً عادت قافلة قريش بدون زوجها ووصلها الخبر المفجع بوفاة زوجها عبد الله. ولادتها لسيد الكائنات محمّد صلىاللهعليهوآله : كانت بلاد الحجاز آنذاك تموج بأقوال مرهصة بنبي منتظر قد تقارب زمانه يتحدّث بها الأحبار من اليهود والرهبان من النصارىٰ والكهان من العرب (١).
لقد تقدّمت بالسيدة آمنة أشهر الحمل ، ولم تبق إلّا أيام قليلة على الولادة المباركة الميمونة ، وبينما كانت تنتظر الوليد بجانب البيت الحرام الآمن وإذا بإبرهة الحبشي يهدّد مكّة ، فجاء إليها عمّها عبد المطلب طالباً منها أن تتهيأ ليخرج بها وأهلها إلىٰ خارج مكة المعظمة ، ولكنّها في نفسها تأبىٰ ذلك إلّا أن تلد وليدها الحبيب وهي بجنب البيت الحرام ، وهكذا عاشت حالتين : حالة التهيأ للرحيل ، وحالة التمسّك بالدعاء لتلد حملها بجانب البيت العتيق ، وبينما هي كذلك حيث تعيش دوامة اختيار القرار ، وإذا بالبشرىٰ تزفّ إليها بأنّ إبرهة وجيشه قد هلكوا وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون بأسوء مهلك وإبرهة معهم يتناثر جسمه وتسقط أنامله. فأقبلت قريش علىٰ كعبتها المقدسة تطوف بها حامدة شاكرة ، وتجاوبت أرجاء البلد الحرام بدعوات المصلّين وأناشيد الشعراء. وبلغت البشرىٰ مسامع السيدة آمنة ، فأشرق وجهها بنور اليقين والإيمان ، وأحسّت غبطة عامرة ان استجاب الله عز وجل دعاءها بأن تلد وليدها المقدّس الطاهر بجنب بيته الحرام ، وجاءها المخاض في أول السحر من ليلة الاثنين وهي وحيدة في منزلها وليس معها إلّا جاريتها ، فأحسّت ما يشبه الخوف ، لكنها ما لبثت أن شعرت بنور يغمر دنياها ، ثمّ بدا لها كأن جمعاً من النساء يحضرنها ويحنون عليها فحسبتهن من القرشيات الهاشميات ، ولكنها أدركت أنهن لسن كذلك ، بل كُنَّ مريم بنت عمران ، وآسيا بنت مزاحم ، وهاجر أُم إسماعيل عليهن السلام ، وتوارت الأطياف النورانية السارية حين لم تعد السيدة (آمنة) وحدها ، أجل فقد كان وليدها المبارك محمّد صلىاللهعليهوآله إلىٰ جانبها يملأ الدنيا حولها نوراً واُنساً وجمالاً ، ومضت ترنو إلىٰ طلعته البهيّة وكيانه المشرق ، وتذكر به ذلك السيد الحبيب الذي أودعه إيّاها ثمّ رحل إلىٰ غير عودة سلام الله عليه.
رحلتها إلىٰ يثرب ووفاتها عليهاالسلام :
كان رسول الله صلىاللهعليهوآله مع أُمّه المباركة آمنة بنت وهب ينبته الله نباتاً حسناً ، فبدرت علىٰ الصبي محمّد صلىاللهعليهوآله بوادر النضج المبكّر ، ورأت السيدة آمنة في وليدها العزيز مخايل الرجل العظيم الذي طالما تمثّلته ووعدت به في رؤياها السابقة. وهنا حدّثت ابنها صلىاللهعليهوآله وقد طال بها الانتظار ، للقيام برحلة يقومان بها إلىٰ يثرب الطيبة ، كي يزور قبر الأب الحبيب عبدالله ، وسرّه أن يصحب أُمّه المباركة في زيارتهما لمثوىٰ أبيه عليهالسلام ، وأن يتعرف في الوقت نفسه علىٰ أخوال أبيه المقيمين في يثرب ،وبعد وصولها الى يثرب طاب لهما العيش شهراً كاملاً ، نفّست عن حزنها المكبوت ، وأسعفتها عيناها بما شاءت من دموع ،
ثمّ ودّعت قبر حبيبها عبدالله وركبت راحلتها وركب معها ولدها الميمون صلىاللهعليهوآله وجاريتها باتجاه مكّة ، وإذا هم في بعض مراحل الطريق إذ هبّت عاصفة عاتية أخذت تسفع المسافرين بريحها المحرقة ، وقد شعرت عندها السيدة آمنة بضعف طارئ مكّن لها من جسمها المتعب ما كانت تجد من لوعة الفراق الجديد (فراقها وليدها محمد صلىاللهعليهوآله) وحينها أحسّت السيدة آمنة بالفراق المحتوم ، فتشبّثت بوحيدها الحبيب معانقة له ، وقد انهمرت دموعها ، وأخذ وليدها محمّد صلىاللهعليهوآله يجفّف دموعها برقّة ولطف ليخفّف عنها رهبة الموقف ، ويرجو أن تعود بصحّة وعافية ، لكن فجأة تراخت ذراعاها عنه ، فحدَّقَ فيها ، فراعه أن بريق عينيها الحنونتين انطفأ ،
وصوتها خفت ، ونظر إليها فكلّمته قائلة : ثمّ أمسكت تستريح ، فلمّا التقطت أنفاسها اللاهثة قالت مخاطبة ابنها محمّد صلىاللهعليهوآله : وأخيراً أردفت قائلة : (كلّ حيّ يموت ، وكلّ جديد بالٍ ، وكلّ كبير يفنىٰ ، وأنا ميّتة ولكن ذكري باقٍ ، فقد تركت خيراً ، وولدت طهراً) (١) ، ثمّ ذاب صوتها راحلةً إلىٰ الملكوت الأعلىٰ. وقد دفنت سلام الله عليها في (الأبواء) (٢) ،
وتذكر رواية أُخرىٰ أنها نقلت ودفنت في مكّة المكرمة في مقبرة الحجون (وهو جبل بأعلىٰ مكّة ومحيط بها) وقد ضمّت تلك المقبرة فيما بعد جسد السيدة خديجة عليهاالسلام بجنب قبر السيدة آمنةعليهاالسلام ، ولذا قال في حقّهما النبي صلىاللهعليهوآله : « ان الحجون والبقيع لتؤخذان بأطرافهما وتنثران في الجنّة » (٣). فسلام عليك يا سيدة الاُمهات يوم حملت بوليدك الوتر محمّد صلىاللهعليهوآله ويوم ولدته رحمة للعالمين ، ويوم تبعثين وعند وليدك محمد صلىاللهعليهوآله كرامة الشفاعة بين يدي ربّ العالمين.
المصدر:راجع كتاب امهات المعصومين سيرة وتاريخ ل عبد العزيز كاظم البهادلي(بتصرف)