مقال للشيخ مصباح اليزدي
ما تمّت ملاحظته ـ لحدّ الآن ـ من ميول ومتطلَّبات انسانية كانت ميولاً ومتطلَّبات يعجز الإنسان بدون تلبيتها واشباعها عن مواصلة حياته كالحاجة إلى الأكل والشرب، أو يتوقف عليه بقاء النوع الإنساني في الأرض كالغريزة والحاجة الجنسية، أو انّ سلامة الإنسان وبقاءه يتوقف على توفيرها كالحاجة إلى الملبس والمسكن، أو تزيده قدرة على تنمية أعماله والإسراع بها كالحاجة إلى المركب.
وعلى أىّ حال، فإنّ المتطلَّبات المذكورة متطلَّبات مادية وبدون الاهتمام بها تتعرض حياة الإنسان المادية للخطر، أو تصاب بالخلل بنحو مّا. وما نريد قوله هنا هو أنّ في الإنسان ـ في مقابل المتطلَّبات والميول المذكورة آنفا ـ مجموعةً اُخرى من الميول واللذّات التي لا تتعرض حياته للخطر بعدم تلبيتها واشباعها، وإنّما يشعر الإنسان باللذة من توفيرها واشباعها. يطلق على هذا النوع اسم (الزينة) و(التجمل).
إلى جانب ما في الإنسان من ميول هناك ميل إلى الجمال أيضاً، وهو مستقل عن متطلَّبات الإنسان الاُخرى وإنْ كان متقارنا معها في الغالب، فمثلاً ما يتناوله الإنسان من طعام ويسد حاجة جسمه المادية إلى الغذاء إذا كان في الوقت ذاته طيباً في لونه ورائحته وقُدّم له في إناء أنظف وأجمل وأفضل فانّه يشعر بلذة أكبر طبعاً، الاّ انّ حيثية الحاجة إلى الطعام هي غير حيثية الالتذاذ باللون والرائحة والجهات الأخرى، فالمكفوف الذي يتناول الطعام ذاته ترفع حاجته إليه ولكنّه محروم من هذا النوع من اللذة لانّ عينه لا تبصر اللون الجميل للطعام، والذين يفقدون حاسة الشم ينتفعون بفائدة الطعام المادية ذاتها، ويلتذون بحاسة البصر باللون الجميل للطعام وإنْ لم يدركوا رائحه الطعام الطيبة ويحرمون من هذه اللذة.
انّ الإستمتاع بالرائحة الطيبة أو رؤية اللون البهيج أو الشكل الجميل والمناظر النضرة أو إدراك الجمال المعنوي والروائع الادبية في الشعر والنثر و... ليست من المتطلَّبات الطبيعية للانسان بمعنى انّ عدمها لا يهدّد الحياة الإنسانية، ولكنّها ـ على أىّ حال، ـ تبعث على التذاذ الإنسان بما يفوق أحياناً اللذّات المادية والتي يحتاجها في حياته.
انّ متعلّق هذه اللذّات يدخل تحت عنوان الزينة والتجمّل، ولفظ الزينة والجمال يشملها بأجمعها. الزينة تتفاوت عن الجمال تفاوتاً ظريفاً، فالزينة تطلق فقط على الجمال العارض الذي يحصل بضمّ شيء آخر من الخارج، بينما الجمال يطلق على الجمال الأصيل في الشيء والموجود في ذاته وبنحو طبيعي.
فمثلاً يطلق على الإنسان الجميل في ذاته انّه (جميل) وعندما يتزيّن بعملية تجميل أو لبس الحلىّ والأسورة والقلادة الذهبية والمرصّعة باللؤلؤ ولبس الأقراط يقال انّه تزيّن. وعليه فإنّ الزينة أمر عارض بينما الجمال صفة ذاتية للشيء نفسه، الاّ انّ الملاك فيهما واحد، بمعنى أنّ الزينة والجمال العرضي يرجع إلى الجمال الذاتي للحلىّ ذاتها، فالحلىّ في الخارج يجب أن تكون جميلة لكي تضفي جمالاً على الأعضاء والجوارح التي تلبسها.
إذنْ انّه الجمال الذاتي للاشياء وله تجلّيان: تجل في الشيء الجميل، وتجلٍّ في الشيء الآخر الذي يتزيّن به، ويطلق على التجلّي الثاني الزينة في مقابل التجلّي الأول وهو الجمال. يستعمل الجمال عادة في المرئيات الأعمّ من الأشياء وبني الإنسان، وهناك نوع من الجمال في المسموعات أيضاً. وفي اللغة الفارسية نعبّر عن الصوت الحسن والممتع بالصوت الجميل، ولعلّ لفظ الجمال في مختلف اللغات قد وضع أوّلاً للمرئيات ثمّ أُطلق على تجلّياته الأخرى. وعلى أيّ حال، فإنّ المقصود من الزينة هنا هو الأشياء التي يلتذ الإنسان بادراكها في الوقت الذي لا يشعر بالحاجة المادية إليها ولا يشكّل عدمها خطراً عليه. حبّ الجمال في القرآن
أ ـ زينة الدنيا لقد ركّز القرآن الكريم على هذا الموضوع باستمرار، والتفت إلى هذا الميل والمراد الفطري للانسان. وفي بعض الآيات عرّف الله عزّوجلّ كلّ ما خلقه في الأرض كـ (زينة) لها بقوله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاَْرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَل1.
وفي بعض آخر من الآيات يذكّر بالنباتات خصوصا بأنه قد جعلها زينة كي تبعث البهجة والحيوية فيمن يراها حيث قال في آية: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة2.
وهي ما يُسرّ الإنسان ويفرح برؤيتها. وفي آيات اُخرى أشار إلى الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة وما يستخرج من البحر كزينة، فقال في مورد: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ3.
وجاء مثل هذا التعبير وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ4
في آية أخرى. وقد عرّف النجوم في بعض آخر من الآيات كزينة للسماء وقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ5
انّ النجوم مصابيح قد زيّنا بنورها وبريقها السماء، وقال في آية اُخرى عن هذا الأمر: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ6.
وفي بعض الآيات جمع كلاً من زينة السماء والأرض في موضع واحد والتفت إليها بقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج * وَالاَْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج بَهِيج7.
وجاء ذيل الآية في آية اُخرى بهذا النحو: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِيم8، والمراد من (كريم) في الآية هو (جميل)
وجاء في آية ثالثة: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْزُون9.
وربّما يجد الذين يدرسون ويبحثون عن حقيقة وماهية الجمال في (فلسفة الجمال) شاهداً من هذه الآية على هذه النظرية وهي أنّ ملاك الجمال أو أحد ملاكاته هو انتظام أجزاء الشيء الجميل وتناسقها وتوازنها، وذلك لمكان كلمة «موزون» بدلاً من «البهيج» و«الكريم» و«الجميل». ب ـ الزينة في العالم الآخر يتمتع المؤمنون في الجنة بزينة خاصّة ويشعرون أيضاً بهذه اللذة (التمتع بالزينة) إلى جانب التذاذهم بالأطعمة والمشروبات وثياب الجنة واللذائذ الأخرى. لقد أكد سُبحانه وتعالى على هذه الحقيقة بتعابير مختلفة في آيات القرآن الكريم كقوله في موضع: جَنَّاتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ10.
في هذه الآية تصريح بتزيين أهل الجنة وتجميلهم بالثياب وأدوات الزينة والذهب والمجوهرات. ويستفاد من هذه الآية جواز لبس الذهب والحرير في الجنة، ويمكن القول: انّ منع انتفاع الرجال بهذه الأشياء في الدنيا يرجع إلى تعارضها مع المصالح المادية والاجتماعية للانسان. وقال في آية أخرى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُش بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَق وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَان11.
يخبر الله في هذه الآية الكريمة عن ألوان من زينة الجنة وهي تتعلّق بمأوى و مسكن وأسرّة أهل الجنة. وفي هذا المجال ورد في آية أخرى: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَف خُضْر وَعَبْقَرِىّ حِسَان12.
لقد ركّز القرآن على اللون الأخضر بين الألوان المتنوّعة والجميلة، ولدى الحديث عن اللون في الجنة فقد ذكّر ـ كما هو الحال في الآية الأخيرة ـ باللون الاخضر. كما جاء في هذا المجال: عَلَى سُرُر مَوْضُونَة * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ13.
كما قال في مجال أدوات الزينة والمناظر الجميلة في الجنة: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِىُّ مَبْثُوثَةٌ14.
لقد تحدّث في هذه الآية عن الكؤوس والآنية التي توضع على المنضدة وعن الأسرّة والأخشاب العالية والجميلة والفرش والوسائد المنتظمة وأدوات الزينة الاُخرى والمناظر الجميلة الموجودة في الجنة والتي يتمتع بها أهلها. وعليه فإنّ أصل الالتذاذ بالمنظر الجميل وأدوات الزينة من الغرائز الفطرية في الإنسان، وليس لها في ذاتها قيمة حسنة ولا سيئة، وتتوقف القيمة والحُسن والقبح الأخلاقية على أمور عرضية وخارجية.
وإذا كان لاستعمال أدوات الزينة والمناظر الجميلة ـ في بعض الموارد ـ قيمة سلبيّة في هذا العالم فانّه إمّا بلحاظ تعارضه مع المصالح الشخصية الاُخرى للانسان، أو بسبب انّه يؤدّي بالإنسان إلى التعلّق بالأمور الدنيوية أكثر من الحدّ المتعارف بحيث يجعله غافلا عن الآخرة، أو انّه مرفوض لتعارضه مع حقوق الآخرين ومصالحهم الاجتماعية. فانْ لم يوجد أمثال هذا التعارض فإنّ استعمال الزينة والجمال في ذاته محبّذ لدى الإنسان فطريا، كما انّه لا بأس به أخلاقيا، وإنّما يكتسب القيمة الإيجابية والسلبيّة من العناوين الطارئة، كسائر موارد الالتذاذ.
الجمال الإنساني في الجنة إلى جانب ما قلنا عن نِعم الجنة التي يعددها القرآن الكريم أشار إلى الجمال الإنساني الذي يتمتع به أهل الجنة، واعتبره من اللذّات التي يحظَون بها. لقد قلنا ونذكّر هنا أيضاً بأنّ الغرائز الإنسانية متشابكة في الغالب، وتدفع الإنسان للعمل المشترك بنحو قد تؤثّر عدة غرائز متقارنة في ممارسة عمل مّا. النموذج الواضح لما ندعيه هو الغريزة الجنسية التي تختلف عن حبّ الجمال، ومع ذلك فإنّ الغريزتين تؤثّران معا في الغالب.
وقد أشير في القرآن الكريم إلى جمال النساء كدافع بعبارة وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ15.
فالجمال عنصر مهم وفاعل في انتخاب الزوج، وإنْ كان حبّ الجمال ميلاً مستقلاً ويختلف عن الشهوة والغريزة الجنسية تماماً. القرآن الكريم في نطاق ذكره لنِعم الجنة ـ إضافةً إلى تعبيره الجذاب والظريف عن الأزواج الجميلات كالتعبير كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ16
وحُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ17
ونظائره ـ فانّه يتحدّث عن غلمان الجنة ذوي الجمال حيث يلتذ أهل الجنة بالنظر إليهم. قال في موضع: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ18.
وقال في موضع آخر: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب وَأَبَارِيقَ وَكَأْس مِنْ مَعِين19.
الغلمان الذين يطوفون حولهم ويخدمونهم هم شباب فى نشاط دائم دون أن يعتريهم الشيب. وجاء في آية ثالثة: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنثُور20.
وعليه فإنّ رؤية ذوي الجمال من اللذّات الاُخروية، والذين لا يلتفتون إلى هذا الميل المستقل في الإنسان يحسبون انّه مرتبط بالغريزة الجنسية، وانّ في الجنة ـ العياذ بالله ـ ميلاً إلى الجنس المماثل، وهذا الحسبان باطل لا أساس له. ولتوضيح ذلك نقول: إنّ التذاذ أهل الجنّة بنعمها هو نفس الالتذاذ الذي تقتضيه الفطرة الإنسانية في ذاتها. لكنّ الميول التي يبديها الإنسان في هذا العالم المادي في بعض الموارد ميول بديلة تنشأ فيه نتيجةً للانحراف عن طريق الفطرة المستقيم. أي حينما لا تُشبع رغباته الفطرية بنحو طبيعي فإنّ ميله ينجذب إلى الطرق البديلة. انّ مقتضى الغريزة الجنسية في هذا العالم هو الميل إلى الجنس المقابل، ولكنّ عامل الحرمان أو بعض العوامل الاُخرى يسبّب انحرافه، فيتعلّق ميله عندئذ بالجنس المماثل أيضاً. وهذا يعارض الفطرة الإنسانية الأصيلة وسيكون انحرافا عن مسيرته الفطرية. يخاطب القرآن قوم لوط بشأن هذا الميل المنحرف بقوله: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ21.
حيث تتّبعون ما هو شيطاني ومنحرف. انّ الميول التي تنشأ في هذا العالم إثر انحراف الإنسان لا وجود لها في عالم الآخرة، فالانجذاب للمخدّرات في هذا العالم مثلاً وهكذا الميل إلى التدخين أو الإدمان على الحشيشة والهيروئين وأمثاله ليست ميولاً فطرية، وعليه لا وجود في الجنة لمثل هذه الميول في الإنسان. فحينما نقول: ينال الإنسان كلّ ما يريده في الجنة وتلبّى جميع رغباته هناك فانّه لا يستلزم وجود السجائر والنارجيلة والهيروئين والحشيشة و.. كما هو حال العالم المادي. يقدّم للانسان في الجنة ما تميل إليه فطرته الأصيلة، وسوف تلبّى جميع ميوله الأصيلة والفطرية وغير المنحرفة وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاَْنفُسُ وَتَلَذُّ الاَْعْيُنُ22.
ولا وجود فى ذلك العالم للميول الإنسانية الناشئة من الانحراف عن الفطرة والضلال. انّ حبّ الجمال وحبّ رؤية الأشياء الجميلة وأصحاب الجمال من الميول الأصيلة والفطرية والدائمة في الإنسان، ولذا فإنّ القرآن يعتبر ذلك من أفضل النِعم في الجنة ومن اللذّات الرفيعة لدى أهل الجنة، ولكنْ ينبغي الالتفات إلى انّ هذا ميل مستقل ولا يرتبط بالميل الجنسي. انّ الميل الجنسي في الإنسان يتمّ اشباعه عن طريق الجنس المقابل، ولكنّ رؤية ذوي الجمال كالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الاطهار(عليهم السلام) ميل فطري آخر، وله وجود في الآخرة أيضاً، ونظراً لكونه ميلاً فطريا وأصيلاً فسوف يُفسح المجال لاشباعه أيضاً.
انّ منع الإنسان من رؤية بعض أصحاب الجمال في هذا العالم يعود إلى التعارض ذاته الذي أوضحناه سابقاً. أي انّ لذة رؤيتهم تتعارض مع الكمالات الاُخرى للانسان، ويتعرض الإنسان إلى الانحراف والضلال باتّباعه لهذا الميل، والسبب هو انّ إشباع الجنس يرتبط غالباً بالجمال بصورة مباشرة، ويكون الجمال في الغالب جزءً من الدوافع المثيرة للشهوة الجنسية.
من هنا فإنّ المرأة في هذا العالم مكلّفة بالحجاب أمام الرجل الاجنبي من جهة، كما انّ الرجل مكلّف بأن لا ينظر إلى المرأة الاجنبية من جهة أخرى، ولكنْ في عالم الآخرة سيقدّم للانسان في الجنة ما يشاء من الحور العين، ولو أثار جمال امرأة ـ هي زوجة شخص آخر ـ رغبته فإنّ الله يخلق له حورية هي مثل تلك المرأة، ولا يواجه مشكلة التعارض والتزاحم في ذلك العالم. الخلاصة انّ حبّ الجمال من الميول الأصيلة والفطرية في الإنسان، ويتمّ اشباعه برؤية المناظر الجميلة، وسيكون الالتذاذ برؤية المناظر الجميلة ومشاهدة ذوي الجمال من نِعم أهل الجنة الكبرى، ويعود وجوب غضّ النظر عن الاجنبي والمنع من الالتذاذ برؤية الجمال الإنساني في بعض الموارد في هذا العالم إلى تعارضه مع كمالات الإنسان الأخرى. الزينة والقيم الأخلاقية انّ الملاك في حُسن استخدام الزينة ـ كما قلنا سابقاً ـ هو جهة ارتباطه بالله عزّوجلّ ومبدأ الإنسان ومعاده. انّ التمتّع بالزينة يكون على صورتين مختلفتين: تكون الاُولى بمعنى الالتذاذ برؤيتها ومشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة.
وتكون الثانية بمعنى التزيّن والاهتمام بمظهر الشعر والوجه والملبس وتناسق ما ذُكر ونظافته. ومن الطبيعي انّ ارتباط هذين النوعين بالله تعالى يكون على صورتين مختلفتين أيضاً، نطلق على أحدهما: (الإرتباط في النتيجة) وعلى ثانيهما: (الإرتباط في دافع العمل). والمراد من (الإرتباط بالله في نتيجة العمل) هو حصول نحو من التغيير الإيجابي في حالات الإنسان ومعنوياته وعلاقته مع الله عزّوجلّ بفعل هذه النعم. فمثلاً إذا كان استخدام هذه النِعم داعياً لالتفات الإنسان إلى الله تعالى والقيمة السامية لنعمه وباعثاً فيه روح التقدير والشكر، أو زاده معرفة وعلما ومعرفة بالله سُبحانه وتجلّى له العلم والقدرة والحكمة الإلهية بنحو أفضل فإنّ التمتع بالزينة في هذه الحالة يكون ذا قيمة إيجابيّة.
انّ أولياء الله الذين يذكرون الله في جوف الليل ـ حينما يرقد الجميع ويسلب الكرىّ أبصارهم وأسماعهم ويضرب على عقولهم واذهانهم ـ وينهضون لعبادة الله ينظرون إلى السماء والقمر والكواكب المنيرة والمجرّات النيرة وجمال الأجرام السماوية فيذكرون الله وقدرته وعظمته وجلاله ويستغرقون في ذكره، وتتركّز حواسهم وإدراكهم في الهيبة والعظمة الإلهية حتّى انّهم لا يرون شيئاً سواه، أو يرون مستقبل العالم من خلال الرؤية والتأمل والتفكّر في هذا العالم، مثل هذه الرؤية والمشاهدة ومثل هذا التمتّع بالزينة سوف يحظى بأسمى القيم الأخلاقية. والمقصود من (الإرتباط في الدافع) هو أن يكون دافع الإنسان في استخدام الزينة هو اتّباع الأوامر الإلهية والآداب الأخلاقية.
في هذا المجال ترتكز رؤيتنا بنحو أساسي على أنّ الإسلام في بعض الموارد قد دعا وأكد على استخدام الزينة بنحو خاصّ من قِبل المؤمنين، فإذا كان استخدام الإنسان الزينة بهذا الدافع وقام بتزيين نفسه واعتنى بمظهره فإنّ عمله يحظى بقيمة إيجابيّة ويكون عملا عباديا، ويحسن أن نشير هنا إلى نموذج بارز: يولي الإسلام أهمّية كبيرة لاجتماع المؤمنين، وله إرشادات جمة للتآلف بين المؤمنين، وبما انّ المظهر اللائق والتزيّن والنظافة الظاهرية من الأمور التي تستوجب الأُنس بين الناس فقد اهتم بنحو خاصّ بتزيّن المؤمنين بعضهم لبعض لكي تشتد رغبتهم في المعاشرة فيما بينهم. فذو المظهر غير المتناسق لا يودّ الناس معاشرته والأُنس معه. وإذا لم يعتنِ المؤمنون بمظهرهم فإنّ هذه الحالة اللامنتظمة ستسبّب تفرُّقهم تدريجيّاً. وعليه فإنّ ذلك لا ينسجم مع هدف الإسلام في التآلف والتعاطف بين المؤمنين.
من هنا يكون من المستحب تزيّن المؤمنين لدى اشتراكهم في الاجتماعات وذا قيمة أخلاقية إيجابيّة. لنلاحظ هذه الآية القرآنية الكريمة حيث تقول: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد23. ينبغي للمؤمنين لدى اشتراكهم في الاجتماعات الإسلامية التي تعقد عادة في المساجد أن يكون مظهرهم متناسقا ليرغب الآخرون ويميلوا للاجتماع بهم والتحدّث معهم. (الزينة) المبحوث عنها هنا تشمل الملبس والشعر والوجه أيضاً.
انّ الملبس النظيف والوجه المزيّن يكونان مشمولَين للزينة، ولهذا الملاك ينبغي للمؤمنين رعاية هذا الإرشاد الإسلامي في مجالسهم الاُخرى حتّى لدى اللقاء بين فردين مؤمنَين. لقد ورد في روايات كثيرة أن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يزيّن مظهره لدى حضوره في اجتماعات المسلمين وحتّى عند اللقاء مع شخص واحد، وفي حالة عدم وجود المرآة ينظر إلى صفحة الماء الصافي كي يلاحظ مظهره لئلا يكون غير متناسق. وورد في روايات اُخرى شدة اهتمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطِيْب، حتّى يستفاد من بعض الروايات انّ ثلث مؤونته السنوية كان يخصّص لشراء الطيب، مما يفيد انّ الإسلام يولي اهتماماً بالتزيّن الظاهري لكي تزداد أجواء الأُنس والتآلف و المخالطة بين المؤمنين، وتتحقّق الأهداف الإسلامية من خلال اجتماعاتهم وعلاقاتهم. ويمكن استظهار استحباب التزيّن من بعض آخر من الآيات القرآنية التي استعمل فيها لفظ الطهارة كالآية: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ24. والآية: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ25، وفي هذا السياق بما انّ الإسلام يولي أهمّية بالغة باجتماعات المؤمنين فقد تضمّن آدابا وأحكاما تهتم بشدة وبنحو خاصّ بتزيينهم لبعضهم، والتزيّن في الملبس والمظهر والنظافة، وذلك بهدف الأُنس فيما بينهم واقامة مثل هذه الاجتماعات. =============================== •
1 الكهف 7.
2 النمل 60.
3 النحل 14.
4 فاطر 12.
5 الملك 5.
6 الحجر 16.
7 ق 6 و 7.
8 لقمان 10.
9 الحجر 19.
10 فاطر 33 و 34.
11 الرحمن 54.
12 الرحمن 76.
13 الواقعة 15 و 16.
14 الغاشية 12 ـ 16.
15 الأحزاب 52.
16 الصافات 49.
17 الرحمن 72.
18 الطور 24.
19 الواقعة 17 و 18.
20 الدهر 19.
21 الشعراء 166.
22 الزخرف 71.
23 الأعراف 31.
24 المدثّر 4.
25 البقرة 222.