بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم الحاجة عفاف الحكيمالحاجة عفاف الحكيم
المرأة في الأطروحة القرآنية
المرأة والعناصر الأصيلة في الطرح الاسلامي من السمات البارزة التي حملها النصّ القرآني هي السمة التوجه للمجتمع الانساني ككل بصرف النظر عن خصوصية النوع فيه فقضايا البشر بأسرها يواجهها كتاب الله على أساس أن الانسان هو الموضوع، والتركيز على عدم النظر إلى المرأة والرجل من زاوية الذكورة والأنوثة وضرورة النظر إليهما من الناحية الانسانية من بديهيات ما أكدت عليه هذا الطرح. وأنه من أجل ترسيخ هذه المعالم في مجتمع خير أمة، فإن النصوص القرآنية ركزت على أمر أساسي هام ساهم ببلورة هذه النظرة وأعطى مسألة الذكورة والأنوثة حجمها الطبيعي وذلك حين بيّن عبر العديد من الآيات الكريمة أن "الأنا" الحقيقي للوجود البشري هي الروح والبدن ليس إلا وسيلة معتبرة ان جسد الانسان بأعضائه وتوابعه لا يمثل الشخصية الواقعية ولا يعبر عن حقيقة هذا الكائن. فالجسد لا يواصل المسيرة، ولا تشمله اجراءات الانتقال إلى العالم الآخر بل تقتصر كما هو معلوم على ما عرفته النصوص بالنفس أو الروح " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (42 -الزمر).
"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا" 97- النساء). الآيات الكريمة هنا تلفتنا إلى ثلاثة أمور:
1- إن اجراءات الاستيفاء – كما بينا – إنما تقتصر على ما يعرفه القرآن الكريم بالنفس أو الروح.
2- إن حوار الملائكة مع الانسان كان حواراً مع هذه النفس التي خرجت من الجسد وخلّفته من ورائها كما يخلّف الثوب البالي بعد خلعه.
3- إن القرآن الكريم يعبر عن الموت بالتوفي والتوفي في اللغة أي الاستيفاء، وتوفى المال أي استوفاه، أو أخذه كاملاً –وهذا تعبير ورد في اثني عشر آية وجميعها تدل على أن الموت عملية استلام. أي استلام الملك الموكل شخصية الانسان الحقيقية الكاملة وقد عبّر الشخصية الكمال كما هو واضح في الروح فقط . ولو راجعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحياة بعد الموت لوجدنا أنها جميعاً تصرح بأن الروح حقيقة مستقلة عن الجسد، وأنها تبقى بعد فنائه، وأن مسألة الموت هي عبارة عن قطع علاقة الروح بالبدن والروح من البدن –كما نستخلص في كتب التفسير- هي بمنزلة النور في ظلمة البدن، والبدن بهذا الضياء يسمع ويرى إلى غير ذلك من الاحساسات. فكل عضو في هذا البدن فعال ببركة نور الروح، فإذا انقطعت العلاقة انقطع النور عن البدن.
فيكون الموت عبارة عن اخراج هذا الضياء من هذا المحل –الذي هو البدن – وجعله في محل آخر. وبخروج الروح يعود البدن مظلما كما كان أولاً. وبهذا نعرف أن علاقة الروح بالبدن ليس نحو الحلول فيه. وكل ما في الأمر أن هناك علاقة بين الروح والجسد، ومن دون أن يكون لها تركيب البدن، والموت هو قطع هذه العلاقة. فيكون البدن تماماً – كما اتضح لنا بمثابة الثوب الذي تقوم الروح بخلقه فحين تمضي هي باتجاه دار المقر يبقى هو في هذا العالم ليتجزأ بالتدريج. وأن ارتباطها بالجسد الفاني كان لمرحلة وأنها بإذنه تعالى تعلقت بالبدن وأحاطت به وبإذنه تعالى انفصلت عنه نكون قد وصلنا إلى القول الفصل الذي لا التباس فيه وبأنه إن كانت الروح هي الأساس أي هي الآنا الحقيقي للوجود البشري
–وهي التي تمثل الشخصية الواقعية للإنسان. وكانت الروح ذاتها –كما يقول العلامة آية الله جواد الآملي في إحدى محاضرته :"ليست مذكراً ولا مؤنثاً، فلا يحق لنا أن نبحث عن تساوي الذكورة والأنوثة أو عدمه." فالذكورة والأنوثة –كما يقول العلامة آملي- هي للبدن ولا أثر لها في الفضائل والمعارف. فالبدن ليس مؤمناً ولا كافراً، عالماً ولا جاهلاً، تقياً أو فاجراً، محقاً أو مبطلاً، سعيداً أو شقياً، عزيزاً أو ذليلاً.
- كذلك في المسائل الأخلاقية التي ترجع إلى العقل العملي أو النظري: الإرادة، الخلوص، الايمان، الصدق، الانقياد، التسليم، التفويض، التوكل، الرضا، الصبر وأمثالها، كلها ليست مذكراً ولا مؤنثاً. - الفضائل والمعارف لا تفضل بين الذكورة والأنوثة. - لو راجعنا كتاب الله تعالى لنقف مع المعارف والفضائل، لما عزنا على أي نص قرآني يتناول مسألة الذكورة والأنوثة في العام. فالعالم والمؤمن والمجاهد –صاحب هذه الروح ليس مذكراً ولا مؤنثاً". -كما وأنه لا يوجد في النص القرآني أي كلام يوحي بخلاف هذا الاتجاه في مسألة الابداع الفكري والسياسي أو العلاقة الروحية، والخلوص الكامل لله سبحانه تعالى. بل إن نجد أن نصيب الحضور النسائي بما قدمه النص القرآني من أمثلة وعينات من الميادين هو الأرقى والأبرز
. وعلى سبيل المثال: فإن العرض الراقي الذي قدمه كتاب الله تبارك وتعالى لملكة سبأ، وزوجة فرعون، ومريم ابنة عمران، والذي يأخذ بمجامع القلب تقديراً واعجاباً بالمستوى الانساني الرفيع الذي تجلى عبر شخص المرأة. والذي يثير من خلال تقديمه للذين آمنوا كافة –من رجال الأمة ونسائها- وضربه مثلا من فبل الخالق جلا وعلا إلى تساوي الذكورة والأنوثة في هذه الميادين، ويؤكد من جديد على الجامع المشترك فيهما " كنفس واحدة" وعلى أهمية كسر الحاجز النفسي الذي قد تسبب فيه رواسب الجاهلية. وقطع الطريق على أي تشنج يمكن أن يعرقل المسيرة بفصل الطاقة التي تشكل -وهنا لا بد من وقفة يسيرة تمكننا من القاء الضوء على الزخم الحاد الذي قدمت من خلاله هذه النماذج التي كانت جديرة بالنص الالهي.
1- ملكة سبأ: إن الصورة المؤثرة التي قدمت للبشرية عن هذه الملكة في صفحات القرآن الكريم توحي بضرورة الالتفات إلى الخامة والمعدن كأساس بصرف النظر عن خصوصية النوع رجلاً كان أم امرأة فهي في النهاية جزء من فاعلية الأمة وقوتها، من خلال التركيز على تمتع العنصر النسائي بتلك المزايا والمسائل الهامة –من ذكاء وحسن ادارة وتقويم سياسي وثنائي وفاعلية، على بعد الثقل المعنوي في الانسان والمتجلي في شخصية الرجل والمرأة على حد سواء وحيث استطاعت تلك المرأة التي عاشت الحكمة رغم بعدها عن أجواء الاسلام إذ كانت وقومها "يسجدون للشمس من دون الله".
إلى أن تصل إلى هذا المستوى الرفيع على صعيد الينبوع الفكري والسياسي اضافة إلى البراعة في الحقل الاداري. - وإن من جملة الحقائق التي أبرزتها النصوص القرآنية :
1- حقيقة طاقة المرأة وما يمكن أن تؤديه من دور في حياة البشرية، وذلك عبر ابراز طاقة فاعلية التي القادة الحكيمة التي تمكنت نوعها وحكمها من الأخذ بيد شعبها نحو جادة الصواب، وحيث وصفتها النصوص القرآنية بأبلغ وصف يمكن أن يوصف به انسان عاقل في مثل هذا المقام مؤكدة فيما جاء على لسان الهدهد "إني وجدت امرأة تحكمهم وأوتيت من كل شيء".
- هذه المرأة بما تمتعت به من كفاءة على صعيد متابعة شؤون الدولة وتصريف الأمور بصورة مثلى اضافة إلى مواجهة كافة قضايا شعبها ومشاكله والدأب والتفاني لخدمته اجتازت مسألة حكم شعبها حتى وصلت إلى أرقى المستويات في هذا المجال. وصلت إلى المستوى الذي باتت فيه ّتملكهم"، وهذا المستوى كما تشهد فيه الآيات الكريمة تجاوز مسألة الذكورة والأنوثة يؤكد على مسألة الكفأة. وحيث ندر توفر مثل هذا المستوى بين الملوك الأرض في طول التاريخ وعرضه. فهذه المرأة الكفؤة التي باتت تملك القلوب، انقذت بهذه الملكية من أخلصت لهم وحكمتهم بوعي من خلال ؟؟؟حقق وأخذت بأيديهم إلى شاطئ الآمان.
2- حقيقة احترام أنبياء الله للعنصر النسائي والذي تجلى في عملية التعاطي من قبل نبي الله سليمان مع هذا الموضوع عبر كتابة الرسالة التي بعثها بها لهذه الملكة من قبله شخصيا كما ورد في النص القرآني ودعوته لها إلى الإيمان.
3- حقيقة المستوى الثقافي والوعي السياسي والتدبر والحكمة والآداب الذي حصلت له تلك الخامة في تلك العصور الغابرة –رغم المحيط الفاسد من حولها وحيث نجدها تمتدح الكتاب الذي وصلها وتصفه بأنه كتاب كريم. لا لخصوصية المرسل بل لما يحويه من مضمون قائلة:" أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم". مع أن هذا الكتاب مفعم بالحزم "أن لا تعلو عليّ واتوني مسلمين" لا شك بأن الفطرة السليمة الخالية من الشوائب هي التي أمدت ملكة سبأ وأكسبت حكمها الموضوعية في التقييم.
4- حقيقة الشجاعة في شخصية هذه المرأة التي استطاعت أن ترنفع بيسر وتتجاوز كل الضغوط التي تجعلها تخرج عن الموضوعية في حكمها. فهي الملكة التي أوتيت من كل شيء ولكنها تقف أمام شعبها لتطلعهم على مضمون الرسالة بثقة تامة وأدب جم وتسم الكتاب الذي بين يديها بأروع ثمة قائلة "إني ألقي إليّ كتاب كريم".
ولنتأمل هنا في صورة التي رسمتها النصوص الشريفة لتعرفّ هذه الملكة مع شعبها وكيف نمّت لغة الخطاب بينها وبينهم في هذا الأمر الخطير "يا أيها الملأ افتوني في امري ما كنت قاطعة حتى تشهدون". إنها تطلب مشورتهم بأسلوب محبب مثقل بالتواضع والاخلاص. وتعلن لهم أنها لن تقطع في الأمر إلا بعد هذه المشورة، وإلا برضاهم وموافقتهم –فلا فوقية في التعامل ولا فرق ولا ديكتاتورية بل تشاور وأخذ رأي-. فهي من جهتها ترى أن الصلاح والخير يكمن في عدم الرفض لمحتوى الرسالة. ولكنها لا تقتحم معنويات شعبها بل تتريث الأمر وتمهد بنقل الأثر الذي أحدثه الكتاب بنفسها إلى الملأ من قولها وذلك عبر الخطوة الأولى بوصف الكتاب بأنه " كريم" ثم بالخطوة الثانية التي تلت وهي طلب المشورة والاصرار بعدم القطع في الأمر وحدها.
وكانت الاجابة بمثابة الصدى لكل ما حبتهم به من انجازات مادية ومعنوية فقالوا بلسان الطاعة المطلقة "نحن أولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين". إنهم حاضرون جاهزون – إنشئت فهي الحرب وإن شئت فهو السلم- القوة العسكرية والسياسية بين أيدينا والتصميم والقطع بيدك. "
لا شك بأن ما تملكه هذه الملكة من مضمون فكري ووعي ثقافي تجيز لأحداث التاريخ مكنها من اجراء عملية استقراء سريعة المتعاقبين ممن ملكهم حب الدنيا من كبرياء واستعلاء بخلاف ما يتحلى به أصحاب الرسالات السماوية من طهارة وصفاء وخشوع، لذا نجدها تأخذ أسوأ نتيجة في الحرب لتعرضها على قومها "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة كذلك يفعلون، وإني مرسلة لهم بهدية فناظرة بما يرجع المرسلون".
إنها تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية أباحوا دماءها وانتهكوا حرماتها لذا راحت هذه المرأة الشجاعة والغير متهورة تحاور شعبها ثم تعرض عليه بأن تمتحنه لترى هل أن هدفه الدنيا؟ أم أنه سالك طريق الأنبياء –فإن قبل سليمان الهدية تكون الدنيا مبلغ همه ووسائل الدنيا تجدي معه ولاحاجة لنا لقبول دعوتهم. وإن لم يقبلها تكون المسألة مسألة عقيدة وهذا الأمر لاتصرفه عنه مغريات الأرض بأسرها، ولذا علينا أن ننتظر قدوم المبعوثين إليه ثم ننظر في الأمر.
وهكذا جاءت وقفتها الأخيرة الحاسمة قوية وعارمة لأنها نتاج الفكر ورجاحة العقل وقوة البصيرة لقد وقفت ملياً وسعت سعياً حثيثاً حتى وصلت بنفسها إلى مرحلة اليقين وبقرارها إلى مرحلة الحسم الكامل. فكان أن أبت إلى ربها وتوجهت نحو النداء الذي وجهه إليها من قبل نبي الله سليمان(ع)معترفة بظلم نفسها ومقدمة العديد من التنازلات في سبيل الوصول إلى الغاية الكبرى والهدف الجليل. وقد بين النص القرآني بأن" قالت ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين".
إنها لم تسلم لسليمان وإنما أسلمت مع سليمان وهذا ما يعبر عن الارتباط الواعي والتسليم الحق للقيادة الربانية. والخلاصة أن النص القرآني قد ركز من خلال قصة ملكة سبأ على تفتح العقل وتفتح الحكمة في الانسان –ذكر أم أنثى- وإن الإشارة إلى النبوغ الفكري والسياسي في العنصر النسائي الذي قد يكون من وجهة نظر البعض – قليل توفره- ليكسب موقع المرأة سموا ودورها بعداً وفاعلية.
2- أما النموذج الآخر الذي لم يقدمه كتاب الله عز وجل فقط، بل ضربه مثلاً للذين آمنوا كافة فكان: زوجة فرعون آسيا، قال الله تعالى في كتابه الكريم: ضرب الله مثلاً للذين آمنوا آسيا إمرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين" 12- التحريم.
- بهذا الايجاز البديع لخص الخالق سبحانه حياة امرأة فيجعل في نهوضها مثلاً لأبناء الأمة التي كتب لها أن تكون القائدة في الأرض. ولا شك أنه حين تصطفي الرسالة لقطات معينة من تاريخ المجاهدين والمجاهدات عبر التاريخ البشري العريض. فإنما تهدف من خلال ذلك إلى عدة أمور: أولاً: بث الحيوية وروح المبادرة في كيان المؤمنين ككل. ثانياً: إعطاء قوة دفع للمفاهيم العامة كي تتحرك عملياً في مواقع الصراع. ثالثاً: تبيان أن السيرة الذاتية لأي فرد ليست لها أي قيم في حساب الرسالة إلا بمقدار ما ترتبط بالرسالة ذاتها. ومن هنا كان تركيز النص القرآني على جوهر الدور – كما نلاحظ – جد اختصار مجمل ما يبرز عظمة الموقف.
وقدرات الطاقة البشرية المؤهلة. 1-إنها امرأة فرعون لم يذكر القرآن لها اسماً، وإنما اكتفى بإلقاء الضوء تاركاً أبناء الأمة أمام المثل المبتدع من بينهن، الذي تحرك ونهض من أعسر موقع.
2- التركيز على هذه الشخصية الايمانية الكبيرة التي لم تستوحش طريق الحق في ذلك العصر مع ندرة سالكيه. فقد آمنت وحدها في تلك المملكة. ووقفت وحدها تواجه أعاصير الكفر الطاغي. مجتازة طوفان المغريات من حولها ولا سلاح يعينها على هذا كله سوى سلاح الايمان فإذا هي ثابتة مطمئنة قوية أمام موقفها الرائد الذي ذهب مثلاً في حياة المؤمنين بعد ان كرّسه النص الإلهي كتعبير عن قوة الإرادة وتفوقها على الظالمين. موقع آسيا.
إن المرأة التي استحقت ان يضرب بها القرآن مثلاً لتكون نموذجاً في الأمة كانت من حيث مباهج حياة الدنيا وزخرفها في موقع يمثل القمة في دنيا الناس.
فهي زوجة فرعون اعظم ملوك الأرض في عصرها قوة وثراء. ومع ذلك لم تدع رفاهية الملك ومتطلباته تشغلها عن نشدان الحق ومتابعة مسيرته فكان أن نهضت لكسر حاجز الخوف وتتخذ موقفاً من الملك "العظيم" الذي هو زوجها ومن ملكه ومملكته وضرب للجموع المستضعفة مثلاً في كيفية نصرة الحق والخروج على طاعة المستبدين. دروس وعبر.
لو حاولنا الوقوف أمام شخصية آسيا للتدقق في معالم الدور الذي نهضت به ومضت لوحدها.
اولاً: إن مباهج حياة الدنيا لم تثن هذه المرأة ولم تشغلها عن متابعة ما يجري حولها من قضايا وأمور عامة، وهي في متابعتها لم تدع مجالاً لأي رغبة أو عاطفة بأن تطغى على ميزان العقل أو تميل به. وهذا السبيل مكنها من الوصول إلى الرأي الراجح والقرار الواعي.
ثانياً:بمجرد أن تحول قلبها من الكفر إلى الإيمان تحول ملك فرعون الضال وزخارف وكل المباهج في قصره إلى قيد تريد الفرار منه بحيث جعلها ايمانها العظيم تتخلى مختارة عن قصور عالم الشهادة المعاش وتؤثر بيتاً في الجنة أي في عالم الغيب.
ثالثاً: تحصيل رضا الله عندها لم يكن قراراً يحكى وإنما عمل حازم حاسم شمل كليا حياتها بحيث تخلت راضية عن كل ما ألفته. فنراها تهض لا تشكو ربها الظروف الصعبة التي أحاطت بها، ولا ترفع إليه مرارت الواقع المضني كما تفعل الكثيرات.
ومررات أجواء الملك الضاغطة ووطأة المجتمع الفاسد وانعدام الوعي وكل ما حوصرت به، وإنما لتحمل إليها قرارها بالتبرؤ من كل هذا وعزمها على الفرار منه والتوجه إلى الله.
رابعاً: التسليم لله. فحين أقدمت آسيا على الجهر بإيمانها كانت تعي فداحة الموقف، لأنها كانت تنتظر من فرعون الكثير. وكان إلى هذا تنتظر لوم من حرموا وقفة الصواب ووهجها العظيم. لأنها كانت تعلم أن الأنفس الساذجة المسحوقة البعيدة عن نور الايمان سوف تخذلها كعادة موات النفوس في مل عصر.
ومع هذا كله ارتضت أن تدفع ضر به هذا الطريق بشجاعة وطيب خاطر مسكنه بكامل اختيارها متحملة كل التبعات. ارتضت أن تتعالى عن المؤثرات والضغوطات وما أكثرها. وعلى الأومر والصلات وما أعمقها. وعلى المغريات من حولها وما أشدها وارتفعت عبر هذا لتكون في تجردها واخلاصها مثلاً للذين آمنو في كل عصر. إنه موقف امرأة عاشت في عصور الفراعنة، ومع ذلك رفع ليكون منارة للعصور المتقدمة، واستحقت صاحبته أن يباهي بها الباري عز وجل ويجعلها مثلاً للمجاهدين والمجاهدات من أبناء الأمة القائدة في الأرض.
-فالدور الجليل الذي نهضت به آسيا لأسماع مشهد النص القرآني بأنه يتجاوز بأبعاده ومعطياته مسألة الذكورة والأنوثة. ولذا استحقت أن يضرب للذين آمنوا كافة. ( راجع العدد 31 من مجلة المنطلق). ثالثاً: مريم (ع): أما النموذج الثالث فكان مريم قال تعالى:"ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكانت من القانتين" (11- التحريم). بهذه الآية المباركة يباري تبارك وتعالى بنموذج نسائي آخر. والملاحظ أنه في المثل الأول حاول القرآن الكريم أن يركز على امرأة فرعون كحالة انسانية من حالة الاستضعاف الفكري الذي يرسف فيه الكثيرون.
تبين من خلال آسية بأن الاستضعاف مرفوض حتى في عالم النساء، وأنه بمقدار الانسان المؤمن رجلاً أم امرأة أن ينشد الحق ويتجه عملياً إليه. مبيناً دور الإرادة الواعية في عملية النهوض لتقرير المصير. أما في المثل الثاني الذي نحن بصدده فقد قدم القرآن الكريم – ابنة عمران- كحالة من حالات الحرب النفسية التي قد تزعزع كيان الفرد وتودي به إلى مهاوي الانهيار. فبيّن من خلال مريم "النموذج" امكانية التصدي للاضطهاد النفسي والارتفاع فوق شائعات الهمج الرعاع واغراءاتهم المختلفة مبيناً دور التربية السليمة والأجواء الروحية الصافية في عملية الثبات والصمود أمام أعتى العواصف وأعسر الأزمات.
مريم النموذج: عاشت حياة ملؤها التقوى إلى أن بلغت بكمالها النفسي ذلك المستوى الإيماني العظيم، بحيث لم يكن لها في ذلك الزمان نظيراً في النسك والعبادة إلى أن بلغ من شأنها أنها حين كانت تعبد الله في المحراب ويأتي وقت الطعام فيبلغها الاحساس بالجوع كانت تأبى ان تفارق محرابها لتأكل لأنها لا تريد أن يشغلها شيء عن هذه الأجواء الأنيسة والحبيبة إلى قلبها فكان الرزق الشهي الرزق الشهي يأتيها من الله سبحانه. وهذا ما جعل كافلها زكريا (ع) –وهو نبي- يتعجب ويسألها مستفسراً عن مصدر هذا الطعام قائلاً لها "يا مريم أنى لك هذا".
فتجيب في خشوع العارفين وصفاتهم "هو من عند الله". (37- آل عمران). كلمات تصور حال هذه الفتاة والكمال النفسي الذي بلغته –نفس الانسان- بعد أن خرجت من ظلمات الغرور وما يحمله من تفاخر ومباهاة إلى نور الانابة وما يصدر عنها من أمن وتسليم. بحيث لم تعد مريم ترى في هذا الطعام الآتي –من عالم الغيب- شيئاً عجباً فالرزق كما تؤمن من الله سواء جاءها بالطرق العادية والأسباب العادية أو غيرها " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. -إنه نموذج العيش المطمئن في أفناء حب الله والذوبان في طاعته وحيث لا يملك انسان في الأرض من الأمن والثقة واليقين ما يملكه قلب مؤمن أحب الله وأحبه الله.
- لقد عاشت مريم آفاقا من العناية التي لا يهبها الله سبحانه إلا لمن يحب فعاشت بقلبها وروحها أكمل وأسمى ما تكون حياة القلوب والأرواح. بحيث نهلت من نبع المحبة الالهية، حتى ارتوت، وحتى بات الخالق سبحانه بالنسبة لها هو الأنس والشوق والرضى. -لذا مع اقتراب موعد المشروع الالهي. أخذت أحلام مريم تفيض بالنور وبدأت آذانها تلتقط أصوات الملائكة التي راحت تحدثها لتجعلها تعيش الاحساس العميق برعاية الله سبحانه وتعالى قبل أن تهمها المفاجئة "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين" 42- آل عمران.
البشارة: بعد أن قطعت مريم رحلة الدأب والمثابرة على ما أمرت به من تكاليف وتأهلت لاستقبال الحدث. ما لبثت رسل الله أن أتت لتكشف لها عن مضمون المشروع "إذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة" 45- آل عمران. معاناة في ظل اللطف الالهي: إذا كانت المجاهدة قد اجتازت الصعب على صعيد النفس بايمانها الكبير. فكيف تجتازه على صعيد المجتمع الجاهل الذي لا يرحم. وكان ان اشتدت حيرتها لهول ما توقعته من لوم اللائمين من قومها وما يرمونها به.
وهنا يتحدث كتاب الله الكريم عن هذه الروح الحائرة، وكيف انفردت واعتزلت مكاناً بعيداً عن الناس. وقد شاءت الرعاية الالهية هذه العزلة التي أقدمت عليها لتخلو بنفسها بعيداً عن ضغط الناس من حولها. بالاضافة إلى انه لا بد لأي روح وجهها الله من خلوة وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن صحن المجتمع وهموم الناس الصغيرة التي تثقل الحياة. فالروح التي تريد أن تصفو وتنمو يلزمها فترة من التأمل والتدبر لتعيش التفاعل العميق مع الكون الكبير بكامل حقائقه وأبعاده.
ويلزمها أيضاً اما تنخلع من أسر الواقع الذي يحيط بها بحيث تنقطع عن كل شيء عدا الله وما أمر به. فهذا وحده هو الذي يؤهل الروح الكبيرة إلى ما هو أكبر وهو الذي يهيء القدرة الذاتية على المواجهة والصبر والتحمل والاستفادة على الخط بلا تردد ولا ارتياب وبدون أي التفات وراء الهواتف والجواذب والمعوقات هذا كله هو الزاد الذي ينير لهذه الفتاة التي اصطفى الله طريقها، وهو الذي سيعصمها من الشيطان وسوسته ويمكنها من الثبات والارتفاع. مواجهة الوجود: لنتأمل جلياً في الصورة المؤثرة التي تبرز المعاناة المرّة التي مرت بها هذه المجاهدة وكيف كان حالها حين آن أوان الوضع واضطرتها آلام الولادة للالتجاء إلى جذع النخلة لتستتر به وتعتمد عليه، وكيف هزها الحياء حين تذكرت ما هي مقبلة عليه، وحيث هاجت خواطرها ورهبة إلى أن وصل بها الأمر لشدة حيائها من قومها، وقلة الحيلة من افهامهم أن تمنت لو أنها ماتت وكانت نسياً منسياً.
وبعد هذا لنتصور الوضع الذي استقبلت فيه البتول من قومها حين أتت وعلى يديها عيسى تحمله لأمكننا أن نكتشف ونقدرعظم شخصية مريم وما كانت تتمتع به من مقومات. فمن التعنيف والتهكم الجارح إلى الشائعات الموسوسة الساخرة من قبل اليهود قومها – والتي راحت تحدث بما ارتكبته متعبدة من خطيئته وحيث راحت الكلمات تسدد إلى مريم كالسهام "يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك أمرأ سوء وما كانت أمك بغيًاً".36 – مريم لكن مريم المجاهدة التي وعت دورها وأدركت مسؤوليتها كانت قد خرجت نهائياً من أفق مشكلتها الضيق وباتت تعيش مشكلة الناس من حولها وهموم المشروع الإلهي الذي يهيأ للخروج بهم من ظلمات واقعهم السيء إلى القرار الرحمة الربانية. وإنها لمستبشرة بذلك الغد الكريم ولباذلة كل ما بوسعها من جهد. فوز الروح المجاهدة -أي جلد وحزم تمتعت له تلك الانسانة المجاهدة حتى تمكنت من أن تواجه تلك العاصفة الهوجاء بذلك الهدوء الرزين. فالموقف بالنسبة لها أكثر من قاسي، إذ ليس هناك أشق أمر على الفتاة الطاهرة من أن تتهم. وخاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة والنزاهة حاضراً وماضياً.
وخاصة إذا كانت حجة الخصم واضحة وهي لا تجد سبيلاً لدفع التهم سوى الالتزام بالصمت والثبات على كل ما أمرت به من تعاليم.
- وهكذا جعل الله لمريم من أمرها يسراً فعبرت التجربة القاسية ومشت غير عابئة بكل ما يحيط بها من أجل أن تكمل المهمة وترعى الأمانة الالهية التي أئتمنت عليها. بحيث نهضت لتكون مثال الأم عبر التكاليف، كما كانت مثال الفتاة المؤمنة عبر التكاليف. نهضت لتعمل على تأمين العيش الكريم لطفلها إلى جانب الدأب على تنشئته تنشئة صالحة، بالشكل الذي يضمن سلامة نفسه واستقامة مسيرته، وإنه لجهاد عظيم هي تقبل الأم بوعي وانطلاقاً من روح المسؤولية على تهيئة الابن للدور الرسالي العظيم الذي تنتظره وهذا ما أدته مريم النموذج على أكمل وجه.
- وما يجب أن نقف عنده هو أن الفتاة الطاهرة الداعية العارفة – كما نلاحظ- لم يجعلها تعالى فوق ما يملك الناس، او ما تملكه نساء العالم من امكانيات وإنما أطهرن. القرآن الكريم من خلال أخلاقها وتحركاتها وطاقتها بيّنها انسانة مثلنا تعيش المعاناة كما نعيش، وتتألم كما نتألم وتبذل في سبيل الوصول إلى غاياتها ما هو متوفر وبمقدور أي منا أن تبذله إن هي رغبت أن تقف جهدها لله وأن تكون قريبة منه سبحانه.
- ما يجب أن نقف عنده هو أن مريم ارتفعت وأحرزت ذاك التكريم الالهي بعد أن بذلت في كل مرحلة من مراحل حياتها أقصى ما يملكه انسان من الوسع والطاقة وبعد أن بقيت روحها الكبيرة في كل وقت وفي كل مرحلة حيث هي سابحة في تلك العبودية الخالصة لله. وإنه ؟؟؟ هذا التوجه والتجرد كان الفوز العظيم بحيث استحقت من الله سبحانه أن يثني عليها باسمها "مريم" مع أنه تعالى لم يذكر في كتابه العزيز اسما نسائياً غير اسمها، ومع ذلك تكرر اسم مريم في القرآن الكريم في حوالي ثلاثين موضعاً وما يقارب العشرين سورة وفي كل موضع ثناء عليها وعلى عفتها وما أدته من دور وتحملته من معاناة. وهذا كله لالفات الذين آمنوا
– إلى ذلك المستوى العظيم من التوجه. وإلى تلك المنزلة الرفيعة من العبودية. وحيث تجتاز النفس الانسان في هذا المصاف دائرة الذكورة والأنوثة. لتتحول مثلاً يضرب لأبناء الأمة كافة. - ما يجب أن نقف عنده هو أن مريم لم تصل إلى ما وصلت إليها إلا بعد أن تغلغل حب الله في أعماقها وأنه عبر هذا المكنون الصافي تمكنت من أن تقف وحدها راسخة القدم ثابتة الجنان لتستقبل بايمانها الكبير أوامر الله ونواهيه. وما اجل الموقف وأعظمه حين تقف مريم لتواجه وحدها قومها ومجتمعها الذي لا يرحم مع كل ما يملكه من نساء وجهل وانحراف. ثم تقف وحدها تفكر وتقرر وتسعى لأفضل الأساليب التي تملكها في اتمامها دورها الالهي.
بعد هذا كله نراها تواصل سعيها وجهادها حتى آخر لحظة من حياتها. فبعد أن تقف إلى جانب ابنها الوديعة الالهية لترعاه وتتحمل ففي سبيله كل أنواع القهر والعنف والأذى والاتهام. نراها بعد ذلك تقف إلى جانبه "كنبيّ" لتكون له سترا ولثورته النيّرة داعية ومبشرة. -ان حياة مريم الانسان الأنثى- والتي ارتفعت نفسها عن جدارة لتكون نموذجاً غالياً في التجرد إلى الله ومثلاً قرآنياً يقدم لأبناء خير أمة أخرجت للناس. فإنه بمقدور أي فرد منا أن نستلهم منها معالم الشخصية العابدة العارفة المجاهدة في آن
. فروح مريم التي كانت معلقة في الملأ الأعلى، هي كما قلنا سابقاً روح الإنسان التي تخضع لتصانيف للمذكر أو المؤنث. وأن جعلها وآسيا مثلاً لأبناء الأمة كافة من قبل الخالق جلا وعلا ليؤكد تركيز المنهج الاسلامي على البعد الانساني الذي يحرر النفس الواحدة من دائرة المحدودية الفصل الثالث حركة هائلة هي التي أحدثها نهج الله، وقام بها رسول الله (ص)، فتربية النفوس واعدادها اقتضت جهوداً ضخمة وصبراً طويلاً وعلاجاً حثيثاً، لأن الهدف المنشود مجتمع يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إليه تعالى بكل شعوره وعمله.
مجتمع محوره الايمان بالله، وفيه تذوب الفواصل المصطنعة وسائر ما يميز انسان عن انسان، مجتمع لا فضل فيه لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، فالمؤمنون والمؤمنات فيه بعضهم اولياء بعض إنهم معاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. عقبات كثيرة كانت تقف دون هذا الهدف. وكان أهمها تلك النظرة الوضيعة للمرأة والتي كان على الاسلام أن يواجهها ليقتلعها من الجذور ويرسي مكانها النظرة الأصيلة لمعالم دور المرأة وموقعها في الاسلام.
عقبات كثيرة كانت تقف دون هذا الهدف، وكان أهمها تلك النظرة الوضيعة للمرأة، والتي كان على الاسلام أن يواجهها ليقتلعها من الجذور ويرسي مكانها النظرة الأصيلة لمعالم دور المرأة وموقعها في الاسلام.
1-سورة التكوير تسجل هول المعاناة.
- لقد بلغ من هوان النفس الانسانية، قبل مجيء الاسلام أن انتشرت عادة وأد البنات. هذه العادة التي تصدى لها القرآن الكريم في أوائل سوره وجاء التعبير عنها في سياق الهول العارم الذي حملته سورة التكوير مسجلة بشاعة واقع الجاهلية. ومظهرة هذا الأمر وكأنه يمثابة حدث كوني من هذه الأحداث العظام التي استعرضها. "إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت وإذا النفوس زوجت وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت".
2- سورة النحل ترسم مرارة الواقع، وتظهر ابعاد الانحراف عن الدين مبيّن أن آثاره لا تقف عند حدود العقيدة بل تتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية قال تعالى:"وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون". فالانحراف عن العقيدة الصحيحة هو الذي أودى بهؤلاء الناس إلى هذا الواقع البائس الذميم. وتصوراتهم المنحرفة هي التي جعلتهم يخشون العار والفقر من ولادة البنات، باعتبار أنهن لا يقاتلن ولا يكسبن ويمكن أن يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار. إضافة إلى أنهن يعشن كلاً على أهلهن فيجلبن الفقر.
-هذه التصورات المنحرفة وصلت بهم من ثم إلى تقبل عملية الوأد بكل تفاصيلها وأبعادها المفجعة، وحيث كانت البنت – كما يقول صاحب الظلال تدفن حية، وكانوا يفتنون في هذا في شتى الطرق. فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها ثم يقول لأمها طيبيها وزيينيها، ويمضي حتى إذا بلغ بها البئر في الصحراء فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها ويهيل التراب عليها. وعند بعضهم كانت الوالدة إذا أنجبت بنتاً رمت بها في حفرة وردمتها، وإن أننجبت ابناً أتت به معها. وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها ؟؟؟ إلى أن تقدر على الرعي فيلبسها جب من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله. فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهم للرعي، فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الذل والهوان.
هذه الأجواء السقيمة ما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة فيها، لولا نزول شريعة الله تبارك وتعالى ونهجه وحيث كرّمت البشرية من خلال تكريم هذا الانسان الذي رفعته شريعة الله إلى المكان اللائق بكائن وظيفته خلافة الله تعالى في الأرض. وإن دور العقيدة الاسلامية في تصحيح التصورات والأوضاع الاجتماعية المحترمة ليتجلى في النظرة القويمة التي بثتها في النفوس، وفي المجتمع تجاه المرأة فأحدثت في ذاك التحول الهائل. عبق التكريم الإلهي: مع بزوغ فجر الانسانية وحيث باتت السماء هي مصدر القيم التي يتعامل بها لا الأرض تم انتشال الأنثى من ذاك الواقع الكئيب الذي كانت ترسف فيه وتقدمت لتنافس المتنافسين في حمل الأمانة الالهية. وكان أن أحرزت وعبر رعاية مباشرة من رسول الله (ص) سبق الفوز في ميادين الايمان والجهاد والشهادة بحيث سطرت أنصع الصفحات في تاريخ المرأة.
وأنه لمن العجب أن ينعق الناعقون في غصرنا بلمز الشريعة الاسلامية، فكان أن جاءت مسألة احراز خديجة(ع) السبق في ميدان الايمان والعمل الصالح، واحراز سمية السبق والفوز في ميدان الشهادة على سائر المؤمنين. مسألة طبيعية وتعبر عن مدى تطابق النظرية مع حركة الواقع في المجتمع أن قبض الذي باتت السماء هي مصدر توجهاته لا الأرض. من هنا كان لا بد قبل ختام هذا البحث من وقفة يسيرة مع مبدأ التبعية الفردية الذي أبرزته النصوص القرآنية. والذي حسم كل التباس من تباين القيمة الذاتية بين المذكر والمؤنث في عالم الانسان.
مظهراً من الله تعالى والفائز برضوانه هو من كان بينهم "سابق بالخيرات" وحسب. ويمكن ان نقف على هذا المطلب المثل القرآني الذي قدم المرأة نموذجاً للانسان الكافر والانسان المؤمن ليدلل من خلال واقعهن على مبدأ التبعية الفردية. قال الله تعالى:"وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وإمرأة لوط كانت تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل أدخلا النار مع الداخلين. وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون. إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله. ونجني من القوم الظالمين. ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها وصدقت بكلمات ربها. ولو عدنا إلى الأمثال التي وردت في كتاب الله، لوجدنا أنها تربو على 80 آية ولقد ضرب للناس في القرآن من كل مثل 58- الروم.
ومع ذلك لم يكن هناك مثل موجه للذين آمنوا...أو الذين كفروا – تخصيصاً- سوى هذا المثل الذي حملته سورة التحريم. وما يستفاد من الطرح القرآني في هذا المجال، إن الله تعالى عندما يضرب مثلاً فإنما يضرب لكل انسان حتى ولو كان المثل امرأة. لأن الخطاب الالهي موجه إلى الانسان المكلف المستخلف عامة – الانسان الرجل والانسان المرأة- كما بينا سابقاً. وأنه بالعودة إلى المثل الذي ضربه تعالى للذين كفروا والذين آمنوا في سورة التحريم، وحيث تحدثت الآيات الكريمة عن نساء كافرات في بيوت أنبياء، وعن نساء مؤمنات في وسط كفار، نستخلص: أولاً: إن المرأة في نظر القرآن –جيدة كانت أم سيئة- فهي مثال.
وأن الأمثال في القرآن هي عبارة عن صور موحية للأفكار والمبادئ سواء منها الحسنة التي يراد التحلّي بها، أو السيئة التي يراد الاجتناب عنها، فالمرأة السيئة التي ليست مثال للسوء، وإنما مثال للانسان السيء، والمرأة الجيدة هي أيضاً مثال للانسان الجيد. وكتاب الله لم يقل إن هذه المرأة نموذج للمرأة السيئة. وإنما قال إنها نموذج للناس السيئين. كذلك عندما تحدث عن المرأة الفاضلة فإنما تحدث عن عموم الفضيلة في الناس. – فالمثل الأول ضرب للذين كفروا وليس للنساء الكافرات، والذين كفروا هم الناس الكفار وليس الرجال الكفار.
- والمثل الثاني ضرب أيضاً لعموم الذين آمنوا، وليس للنساء المؤمنات فقط. ثانياً: تبيان أن الشقاء والهلاك إنما كان بكفر هذا الانسان وخيانته لله ورسوله بحيث لم ؟؟؟ اتصال بسبب إلى الأنبياء المكرمين إذ "كل نفس بما كسبت رهينة" وإن الفوز برضوان الله تبارك وتعالى إنما كان بسمو روح الانسان الآخر وتعلقها –رغم المحيط الكافر- بالملأ الأعلى. والمعروف في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط أنها كانت خيانة الدين، خيانة العلم والفكر والمبدأ وليس الخيانة الشخصية المادية. فقد خانتاهما – في موقع العقيدة ومجال التبليغ والدعوة إلى الله وهذا ما قال به معظم المفسرين. الخاتمة: - وبعد فهذه في مجمل نظرة الاسلام للمرأة، التي حملتها الأطروحة القرآنية، وتلك في العناصر الأصيلة في عملية الطرح، وحيث لم يكن بالوسع في هذا البحث المجمل أن تمضي أكثر من هذا في الحديث عن الخطوط العريضة التي خططها الاسلام في حياة المرأة، فكان أن تم حصر الموضوع بين النقطتين التين تشكلان بالنسبة إلى البحث – نقطة ارتكازه-.
- أما النقطة الأولى تتمثل في الآيتين الكريمتين "وما خلقت الانس والجن إلا ليعبدون". "إني جاعل في الأرض خليفة". أم النقطة الثانية فتتمثل في المثلين القرآنيين الذين ضربا للذين كفروا والذين آمنوا تدليلاً على مسؤولية الفرد. وحسبي ما بذلته من جهد لايضاح الفكرة وجلائها، فإن حالف التوفيق هذا الانجاز المتواضع فهو غاية ما هدفنا إليه. وإلا فحسبنا من عملنا هذا أن الفتنا إلى بعض النقاط المهمة والقينا الضوء على ما تضمنته كتاب الله تعالى من معالم
– بهذا الخصوص- وما عرضه من عينات، والله سبحانه من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل. الفصل الرابع:المرأة والتبعية الفردية في القرآن. إن النقلة التي أحدثتها أطروحة القرآن في مكانة المرأة
– بعد ذاك الواقع التعيس لترينا من جهة قيمة العقيدة فهي تصحح التصورات والأوضاع الاجتماعية وتبرز مدى تفاعلها وتأثيرها في النفس الانسانية. ومن جهة ثانية ترينا غربة عالمنا ومجتمعنا عن المفاهيم الأصيلة لديننا العظيم الذي نادى الناس قبل أربعة عشر قرناً ؟؟؟؟ بهم. مبيناً لهم بأن الانسانية جمعاء إنما ترجع بذكورها وإناثها إلى أصل واحد. مشدداً على الكرامة الواحدة، والمهمة الواحدة، والميدان الواحد. ملفتاً إلى أن الاختلافات، إنما كانت من أجل أن يتعارف الناس ويتآلفوا وتتوزع بهم وظائف الخلافة في الأرض ويكون الرجوع من ثم إلى الله الذي ؟؟؟؟ في الأرض واستخلفهم فيها. وحيث جاء الخطاب الالهي شاملاً واضحاً معبراً "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" 12- الحجرات.
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تسألون والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً" "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف الليل السنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" 22- الروم. - ومن جهة ثالثة ترينا مبلغ الضرورة في مراجعة حساباتنا. والالتفات بشكل فعال إلى الأساليب التي مكنت هذه العقيدة سريعاً من ترجمة هذه المعالم والميادين والخروج بها من دائرة النظريات، وحيث تجسدت أوضاعاً عملية في حياة الناس. بعد أن عمل رسول الله (ص) مباشرة على تركيزها وزرعها ورعايتها فكان ان أزهرت وأثمرت نماذج رفيعة –لم يكن لمسألة الذكورة والأنوثة أي نصيب منها في مهمة أبنائها. لأن التوجه المطلوب هو ذوبان الكل في النظام الالهي. والشريعة السمحاء وتجاوز كل تفاوت واختلاف يعرقل عملية السعي وبلوغ كل فرد ما تؤهله له استعدادته الشخصية وتكفله له صفة الانسانية.