والشياطين مغلولة قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة:فصلٌ، فيما نذكره من شكر الله جل جلاله على تقييد الشياطين ومنعهم من الصائمين في شهر رمضان. إعلم ان الرواية وردت بذلك متظاهرة ومعانيها متواترة متناصرة، ونحن نذكر من طرقنا إليه ألفاظ الشيخ محمد بن يعقوب الكليني فإن كتبه كلها معتمد عليها، وقد روى عن جابرعن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقبل بوجهه الى الناس فيقول: يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غُلَّت مردة الشياطين، وفتحت أبواب السماء و ] أبواب الجنان وأبواب الرحمة، وغلقت أبواب النار، واستجيب الدعاء،
وكان لله فيه عند كل فطر عتقاء يعتقهم الله من النار، ومنادٍ ينادي كل ليلة: هل من سائل، هل من مستغفر، أللهم أعط كل منفق خلفا وأعط كل ممسك تَلَفاً، حتى إذا طلع هلال شوال نودي المؤمنون أن اغدوا الى جوائزكم فهو يوم الجائزة، ث
م قال أبو جعفر عليه السلام: أما والذي نفسي بيده ما هي بجائزة الدنانير والدراهم. أضاف السيد: ورأيت حديث خطبة النبي صلى الله عليه وآله رواية أحمد بن محمد بن عياش في كتاب الأغسال، بنسخة تاريخ كتابتها ربيع الآخر سنة سبع وعشرين واربعمأة، يقول بأسناده إلى مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: لما كان أول ليلة من شهر رمضان قام رسول الله صلى الله عليه وآله، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس قد كفاكم الله عدوكم من الجن والإنس، ووعدكم الإجابة وقال ادعوني أستجب لكم، ألا وقد وكل الله سبحانه وتعالى بكل شيطان مريد سبعة من الملائكة، فليس بمحلول حتى ينقضي شهر رمضان،
ألا وأبواب السماء مفتحة من أول ليلة منه الى آخر ليلة منه، ألا والدعاء فيه مقبول. حتى إذا كان أول ليلة من العشر قام فحمد الله وأثنى عليه وقال مثل ذلك ثم قام وشّمَّر وشد المئزر وبرز من بيته واعتكف وأحيا الليل كله، وكان يغتسل كل ليلة منه بين العشائين.
إذا كانت كل هذه المفردات قائمة في شهر الله تعالى خصوصاً أن الشياطين مغلولة فلماذا نُذنب إذاً؟
وينطلق هذا السؤال من تصور أن السبب الوحيد للذنب دائماً هو الشيطان، فإذا كانت الشياطين مغلولة فلماذا نقع في المعصية في شهر رمضان المبارك؟ وقد سأل أحدهم السيد ابن طاوس عليه الرحمة سؤالاً قريباً من هذا فقال له ما خلاصته: "أنا لا أجد اهتماماً من نفسي بالعبادة والدعاء في شهر رمضان، وتبقى حالتي الروحية التي كنت عليها قبل شهر رمضان هي نفسها في شهر رمضان والحال أن تقييد الشياطين ينبغي أن يتسبب بوضع جديد وحالة نفسية جديدة؟
وقد أجابه السيد عليه الرحمة بإجابات عدة من جملتها قوله: "إن العبد له قبل شهر رمضان ذنوب قد سوّدَت قلبه وعقله وصارت حجاباً بينه وبين الله جل جلاله فلا يُستبعد أن تكون ذنوبه السالفة كافية في استمرار غفلته فلا يؤثّر منع الشياطين عند الإنسان لعظيم مصيبته".
الجواب أن الإنسان قبل شهر رمضان المبارك إرتكب ذنوباً كثيرة، هذه الذنوب قد تكون وصلت إلى حد أنها سوّدت قلبه وعقله وأصبحت حجاباً بينه وبين الله عز وجل، وجعلته في غياهب غفلة كبيرة عن الله تعالى، ومع أن تقييد مرَدَة الشياطين يؤثر بشكل عام، إلا أن مثل هذا الغافل كلياً، يبقى يرتكب المعاصي بزَخَم الذنوب التي ارتكبها. أللهم أعنّا على أنفسنا.
ونستطيع في ضوء ذلك أن ندرك أهمية الإستعداد لشهر الله تعالى قبل حلوله، وكذلك أهمية أن يبادر الإنسان في أي لحظة من لحظات الشهر المبارك ولو في آخرها إلى التوبة النصوح والتضرُّع، فيقول حاله قبل اللسان:إلهي إن لم ترحمني فمن يرحمني، إلهي من أنا حتى تغضب عليّ، ويصرّ في طلب التوبة وأن تكون هذه التوبة صادقة نصوحاً، وإن عجز حالنا عن ذلك فلا أقل من التوسل للحصول عليه.
وقد تناول آية الله التبريزي رضوان الله عليه،هذه النقطة
- إذا كانت الشياطين تُغَلّ وتُقَيَّد فلماذا نقع في المعاصي في شهر رمضان- فأكد على ضرورة الإعتقاد بهذه المفردات التي وردت في الخطبة المباركة "أبواب الجنان مفتَّحة، وأبواب النيران مغلَّقة، والشياطين مغلولة" ثم قال في معرض هذا التأكيد:" ولقد حُكِيَ عن بعضهم أنه كان لا يرى من غَلِّ الشياطين في شهر رمضان كثيرَ نفع، وكأنه صعُب عليه تصديق ذلك أو فهم المراد منه مع العلم أن الأثر لتقييد الشياطين محسوس في شهر رمضان وهو أمر ظاهر، لما نراه من كثرة العبادات والخيرات في شهر الله تعالى ولا يشك فيه أحد، ومن عرف حقيقة الشيطان وجِهة ارتباطه مع الإنسان ومداخِلَه، يعرف أن نفس الإمتناع عن الطعام والشراب لا سيما إذا اقترن بكفّ الإنسان عن كثرة الكلام، سبب لمنع تصرف الشياطين في قلب الصائم، كما أُشيرَ إلى ذلك في قولهم عليهم السلام "ضيِّقوا مجاريه بالجوع وإنه يجري في بدن الإنسان مجرى الدم".
ويضيف آية الله التبريزي عليه الرحمة: "وعلى أي حال فهذا الذي نشاهده من عامة الناس من كثرة العبادات والخيرات والقربات في شهر رمضان شيءٌ لا يُنكَر، نعم ليس هذا بالنسبة إلى جميع الشياطين وبالنسبة إلى جميع المكلّفِين وهذا أمر ظاهر لأهله كما صرّح تقييده في بعض أخبار الباب بمَرَدَة الشياطين".
والخلاصة أن السيد إبن طاووس عليه الرحمة أورد الروايات المختلفة التي يؤكد بعضها أن كل الشياطين تُقيَّد في شهر رمضان، فيما يؤكد البعض الآخر أن الشياطين الكبار هي التي تُقيَّد، وهذا معنى مَرَدَة الشياطين، ورغم ذلك فإن الظاهر من كلامه أنه يتبنّى أن كل الشياطين تُقيَّد في شهر الله تعالى، أما آية الله التبريزي عليه الرحمة فظاهر كلامه أنه يرى أن المَرَدَة تُقيَّد، أي الشياطين الكبار، وهذا يعني أن الذين يشعرون بفارق أساسي في شهر رمضان هم الذين يتصدى للتأثير عليهم والوسوسة لهم الشياطين الكبارأي المَرَدَة.
ويمكن فهم هذه الحقيقة في ضوء عمل الأجهزة الأمنية في العالم، فإن كل شخص تركّز عليه أجهزة المخابرات الشيطانية بحسب حجمه، وليس من الطبيعي أن يتولى شيطان كبير في المخابرات الأمريكية أو الموساد ملفّاً لشخص عادي لا يشكّل خطراً أساسياً ونوعيّاً على أعداء الله، أما إذا بلغ شخص مرحلة من الخطورة بحيث أن وضعه أصبح يرتبط بأمن هذه الجهة الكافرة أو تلك فإن من الطبيعي أن يتولى ملفّه شيطان كبير، وهذا هو المراد - بناءً على رأي آية الله التبريزي عليه الرحمة – من أن مَرَدَة الشياطين تتولى ملفّات المؤمنين الأساسيين، وعباد الله الصالحين، وأن الذين يُقيَّدون في شهر رمضان هم مَرَدَة الشياطين، ومعنى ذلك أن الذين يرتاحون من وساوس الشياطين في شهر رمضان، هم هؤلاء الزهاد العُبّاد، أما أنا وأمثالي فإن من يتولى الوسوسة لنا هم الأبالسة الصغار، وشياطين عاديون، وهؤلاء لا يُقيَّدون في شهر رمضان بناءً على هذا الرأي الذي يتبنّاه آية الله التبريزي عليه الرحمة.
والواقع أن ظاهر الروايات أن الشياطين كلها تُقيَّد وعندما نجد حديثاً عن تقييد المَرَدَة فهوتفصيل بعد الإجمال، يرِد في مقام بيان خصوصيات معيَّنة لا تتنافى مع كون غيرهم أيضاً يُقيَّد، وما ذكره السيد ابن طاووس عليه الرحمة وجيه، وهو أن الإنسان يصل إلى مرحلة يصبح هو شيطاناً، فحتى إذا كانت الشياطين مقيَّدة فيصبح هو يوسوس لنفسه، من قبيل أن شخصاً مثلاً وصل في ارتكاب المعاصي والحرام إلى حد أنه أصبح يجُرّ غيره إلى الحرام والمعصية، فليس بحاجة إلى أن يجُرّه أحد، إنه يمتلك من الشيطنة " الإكتفاء الذاتي" و " الإستقلال" بالشيطنة. يستطيع الإنسان بيُسْر أن يكتشف بالتأمل في أجواء شهر رمضان المبارك، أن هناك فارقاً أساسياً، بين ما كان الناس عليه أمس قبل دخول الشهر، وبين ماهم عليه اليوم وقد حل شهر رمضان. إنك ترى الناس في وضع جديد، وحتى أولئك الذين لا يعرفون القِبلة كما يقال، ولا يهتمون بالدين والتديُّن على مدار السنة، فإنهم يقبلون على الخيرات والمبرات، ومنهم من يصلي ويصوم، ويقرأ القرآن. يتعاظم الإهتمام بالأعمال الصالحة بشكل عام، وتبدأ تسمع من الجميع: إننا في شهر الله تعالى، وأن للشهر حرمته، ولا يمكن تفسيرذلك تفسيراً مادياً.
وفي المقابل نلمس بالوجدان أن المعاصي تُرتكب حتى في شهر الله تعالى، بل إن الصائمين أو المهتمين بشهر الله تعالى بأي درجة لايُحصَّنون منها بحيث لاتصدر منهم، وهو واضح. ولابد في ضوء هذا وذاك والتأكيد النبوي على أن الشياطين مغلولة، من حمل ذلك على ماتقدم ذكره من أن الذين يقعون منا في المعاصي في شهر رمضان، فإن ذلك نتيجة عكوفهم السابق على الذنوب التي طبعت العقل والقلب والشخصية عموماً بطابعها. والله تعالى المستعان. إن الإدمان على الذنوب يجعل صاحبه كالمدمن على المخدرات الذي لايعني تقييد من يوسوس له أن هذا المدمن أصبح غير قادرعلى تعاطي المخدرات،
بل يعني أنه قد تهيأ له مناخ مناسب للإقلاع عما أدمنه. ويكشف التأمل في النصوص حول شهر الله تعالى أن كل العناصر التي يوفرها الله تعالى فيه تهدف إلى تأمين المناخ الأفضل للتوبة الصادقة النصوح والإقلاع عن إدمان المعاصي وأي لون من ألوان تعاطيها.وفي هذا السياق يقع الحديث حول أن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتّحة وأبواب النيران مغلقة والشياطين مغلولة.
المصدر:جمعية المعارف الاسلامية