الضيافة الإلهيّة تنقسم إلى أربعة أنواع :
فإنّها أمّا أن تكون تكوينيّة أو تشريعيّة ، والثانية أمّا أن تكون زمانيّة أو مكانيّة أو إنسانيّة إلهيّة . وجذور التقسيم الرباعي يرجع إلى المفاهيم الأربعة وهي بمنزلة الأمّهات في الوحدة والكثرة ، وهي : العام والخاص والأعم والأخص . بيان ذلک :
1 ـ الضيافة بالمعنى االأعم
أمّا الضيافة الإلهيّة التكوينيّة فهي بالمعنى الأعم ، والمقصود منها: أنّ الكون كلّه في ضيافة الله، فإنّ الخلق والكائنات الممكنة في وجودها وماهيّتها، حدوثآ وبقاءً، تضاف إلى الله سبحانه ، فهي في (ضيافة الرحمن) وفي ضيافة الأسماء الحسنى والصفات العليا، وفي ضيافة خصوص الإسم الرحماني وما يرجع إليه من الأسماء والصفات ، فإنّ الرحمن يخلق ويرزق مطلقاً، فخلقه في ضيافته (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) فطعامهم وشرابهم التسبيح والتحميد، وقِراهم ـفإن لكلّ ضيف قرىً ـ هو الكمال المودع فيهم ، فإن الحبّة قراها أن يبرز منها كمالها المودع في جبلّتها ووجودها، بأن تكون شجرة ذات ثمرة ، فكانت في ضيافة الله جلّ جلاله ، فأقرها وضيّفها بوصولها إلى كمالها الشجري
وأمّا الضيافة التشريعيّة
فباعتبار الزمان أي الضيافة بالمعنى العام ، وهي : تتعلّق بالمكلّفين أو ضيافة المؤمنين في كلّ دين من الأديان السماوية في عصرهم بإسم (الصيام) وكذلک في الدين الإسلامي الذي خُتم به الأديان (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ)[1] فإنّ الله رحمةً بالنّاس ، شرّع للمسلمين المؤمنين الصيام كذلک ، وكتبه عليهم كما كتب على الذين من قبلهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[2] فالمقصود من الصيام هو التقوى والتقرّب إلى الله سبحانه[3] .
إن الدين للعباد ووضع الأحكام الشرعيّة والتكاليف الدينيّة ، إنّما هي من الرحمة الرحيميّة تختص بالمؤمنين ، فتشريع الصيام والضيافة العامّة متجلٍ من إسم (الرحيم) وما يرجع إليه من الإحسان والعطاء والمرهبة والإكرام ، وإنّها قريبة من المحسنين المؤمنين (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[4] ومن شيعة أمير المؤمنين علي 7.
إن خطاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) في القرآن الكريم يراد منه من كمل إيمانه ، ولا يكمل إلايمان إلّا بالتوحيد والنبوّة والإمامة الحقّة ، فالخطاب في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) هو الشيعي الإمامي الأثنىعشري ـكما هو ثابت في محلّه ـ لإيمانه بالله وبرسوله وبوصيه الذي نصبه يوم الغدير ثمّ الأئمّة الأحد عشر من ولده : خلفاء الرسول الأكرم 6. ولأن ما من خطاب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) إلّا كان سيّد الموحّدين علي 7 أميرهم ـكما قالها إبن عباس كما هو متفق عليه عند الفريقين ـ فيراد من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) هو المجتمع الإيماني أعمّ من الرّجال أو النّساء من أتباع مدرسة أهل البيت :، ومن كمل إيمانه .
فالصوم في شهر رمضان المبارک من الضيافة الزمانيّة ، دعى الله المؤمنين من عباده ليكونوا في ضيافته العامّة في كلّ سنّة في شهر رمضان المبارک لمن إجتمعت فيه شرائط التكليف . فدعانا الله الكريم لضيافته العظيمة ، كما أخبرنا برسالة دعوته رسوله الأكرم وحبيبه المصطفى محمد 6 في آخر جمعة من شهر شعبان المعظّم ، فقال : «أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة ، والمغفرة ، شهر هو عندالله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات ، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله... أنفاسكم فيه تسبيح ، ونومكم فيه عبادة ، وعملكم فيه مقبول ، ودعاؤكم فيه مستجاب ، فأسألوا الله ربكم بنياتٍ صادقة ، وقلوب طاهرة ، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه ، فإنّ الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم .
واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه ، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم ، ووقرّوا كباركم ، وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم ، واحفظوا السنتكم ...». ثمّ تشرّف شهر رمضان بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وشرافة ليلة القدر كان بوليّها الأعظم حجّة الله على الخلق ، إمام الزمان والمكان ، قطب عالم الإمكان ، الذي يتنزل عليه الرّوح الأعظم بمقدرات الكون ، وما يكون ، خلال السنة من الحوادث والوقائع (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[5] .
ولا يخفى أنّ الضيافة الإلهيّة تختلف عن الضيافة البشريّة ، فإنّ النّاس في ضيافتهم يقومون بأمور الضيف وجلب رضاه بألذّ الأطعمة وأجود الأشربة وأفضل المبيت وغير ذلک من الآداب والإكرام ، ولكن الله سبحانه في ضيافته الرمضانية ، يأمر ضيوفه بالإمساک عن المفطرات من الأكل والشرب والشهوة وغير ذلک ، إلّا أن ضيافته بعد الإمساک عن الطعام المادي هو ذكره الجميل من الأدعية والقرآن الكريم (ولكلّ شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) والعلوم والمعارف العرشية بإلهامات ربانيّة ، فطعام الصائمين ذكر ربّ العالمين . وأمّا قرى الضيافة فهي الجنّة ونعيمها، فإن الدنيا دار المزاحمة ، ودار بالبلاء محفوفة ، ضيّقة عصيبة ، لا تفي بضيافة الله الأبدية ، فلا قرى أفضل من جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، أعدّت للصائمين المتقين .
3 ـ الضيافة بالمعنى الخاص
وأمّا الضيافة الخاصّة وبالمعنى الخاص ، فهي الضيافة التشريعيّة المكانية وهي الضيافة في أيام الحج في مكة المكرّمة ، فمن كان حاجاً ومعتمراً في أيام معلومات يطوف حول بيت الله الحرام ، كان في ضيافة الله الخاصّة . فإنّه في ليلة القدر يكتب صکّ الحاج والحاجّة ، وجواز سفرهما فيكونا ضيفآ على الله سبحانه في أيّام معلومات ومعدودات . ثمّ الحج عرفة ، وإن الله يغفر لمن أدرک وقوف عرفة ، وقد تشرفت عرفة بحضور وليّها الأعظم حجّة الله على الخلائق صاحب الزّمان 7. ولا يخفى أنّ الضيافة التكوينيّة من الضيافة الجلالية يستلزمها الهيبة والجلال ، وأمّا الضيافة التشريعيّة الزمانيّة والمكانيّة فهي من الضيافة الجمالية فالضيف يكون في رحاب أسماء الله يستلزمه الانس والمودّة والصفاء. وبقيت الضيافة الكمالية وهي في رحاب ضيافة الإنسان الكامل المعصوم .
4 ـ الضيافة بالمعنى الأخص
تتجلّى الضيافة بالمعنى الأخص في زيارة المعصومين من الأنبياء والمرسلين والأئمّة الطاهرين :، وزيارة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء :. وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن زائر قبور الأئمّة الأطهار : كزيارة الإمام الرّضا 7 من أكرم الوفود على الله عزّ وجلّ ، ومن زاره عارفاً بحقّه يزور الله في عرشه ، وتعادل زيارته ألف ألف حجّة وعمرة مقبولة ، فتكون زيارته كليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وأن الزائر شاهد وشهيد، في مقعد صدق عند مليک مقتدر، فرحاً بما آتاه الله من فضله ، مستبشراً بما تفضل عليه من رحمته الرحيميّة ، ومن ألطافه الخفية والجليّة .
إنّ ضيافة المعصوم 7 تعني الضيافة الحاكمة على التكوين والتشريع ، فإنّه قد ثبتت له الولاية التكوينيّة والولاية التشريعيّة[6] ، فتكون ضيافته جامعة بين أسماء الجلال والجمال وصفات الثبوت والسّلب ، فضيافته من ضيافة الكمال . ونقول مرّة أُخرى لزيادة التقرير، أن الضيافة الإلهيّة بدوائرها المختلفة وبأقسامها المتفاوتة ليست ضيافة الأكل والشرب والنوم كما في الضيافة البشريّة ، بل من جهة الأكل والشرب إنّما هي من الضيافة الإمساكيّة ، كما في الصوم .
وباعتبار النوم من ضيافة اليقظة (قائم ليله صائم نهاره). والسّر في ذلک : إن الأكل والشرب إنّما هما لتقوية الجسد ونموّه ورشده ، فضيافتهما ضيافة جسدية كما عند عامّة النّاس ، وأمّا الضيافة الإلهيّة فهي من الضيافة الروحيّة التي هي من أمر الله (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[7] فتكون الضيافة من عالم الأمر والغيب ، ومن عالم اللاهوت ، الجبروت والملكوت .
من الذات والصفات والأفعال والأسماء، ومن الإسم وإسم الإسم وإسم الإسم الإسم[8] . فالضيافة الإلهيّة ملكوتية روحيّة أبدية تتصل بنعيم الجنان وجنّة الأسماء (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّکِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[9] . وأمّا الضيافة البشريّة فهي من الناسوتية والملكيّة الجسديّة الزائلة ، تنتهي بموت الجسد وزواله .
ضيافة الله في شهر رمضان وفي الحج وفي زيارة المعصوم 7 إنّما هي ضيافة الأسماء الحسنى والصفات العليا، والإنسان الكامل الذي تتجلّى فيه الأسماء الحسنى والإسم الأعظم جامع الجمع ، ومستجمع جميع الصفات (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً)[10] . وفي مناجاة المحبين لمولانا زين العابدين 7: «من ذا الذي ذاق حلاوة محبتک فرام منک بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربک فابتغى عنک حولاً»[11] . فالطعام الإلهي يعني حُبّ الله وعشقه ، ومن ذاق محبته لا يروم إلى غيره ليتخذه بدلاً عنه ، هيهات هيهات فإنّه لا يطرق باب غيره ، ولا يلتجأ إلّا إليه ولا يسأل إلّا منه ، فيكمل توحيده (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ)[12] (مَا وَدَّعَکَ رَبُّکَ وَمَا قَلَى)[13] وبتقدّم الأيام يكثر لطف الله عزّ وجلّ (وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّکَ مِنَ الاُْولَى)[14] (وَلَسَوْفَ يُعْطِيکَ رَبُّکَ فَتَرْضَى)[15] .
فضيوف الرحمن يزدادون علماً بإلهام من الله، فإنّه يناجيهم ربّهم في سرّهم ، ويرون الله بقلوبهم بحقائق الإيمان ، وتتجلى أسماء الله في وجودهم وسلوكهم ، فكانوا مظهراً لعزّته ولطفه وحياته وقدرته وبركته وعلمه وحياته . إنّما يستلذّ ضيف الله بذكره بمقدار وعائه ، فإنّ القلوب أوعيّة خيرها أوعاها، فيصير القلب مرآة جمال الله وجلاله وكماله .
المصدر:جمعية المعارف
[1] () آل عمران: 85.
[2] () البقرة: 183.
[3] () لسان العرب: 8، 108؛ ومجمع البحرين: 2، 1090. ذكرت تفصيل ذلک في رسالة (على أبواب شهررمضان المبارک) ورسالة (من أسرار الصيام).
[4] () الأعراف: 56.
[5] () الدخان: 4.
[6] () ذكرنا تفصيل ذلک في رسالتنا (الولاية التكوينيّة والولاية التشريعيّة ماذا تعرف عنهما).
[7] () الإسراء: 85.
[8] () ذكرت تفصيل ذلک في رسالة (ويسألونک عن الأسماء الحسنى).
[9] () الفجر: 27 ـ 30.
[10] () الإنسان: 21.
[11] () مفاتيح الجنان : مناجاة المحبيّن .
[12] () الشعراء: 79.
[13] () الضحى: 3.
[14] () الضحى: 4.
[15] () الضحى: 5.