تكفّله للفقراء والمحتاجين
لقد كان الإمام عليه السلام يرعى الفقراء والمحتاجين، ويكثر من التصدّق عليهم، في السرّ والعلن، وفي الليل والنهار، متكفّلاً للكثير من البيوتات التي لم تكن تجد قوتها وطعامه، وفي الغالب من حيث لا يدري أحد منهم، حتّى إذا رحل الإمام إلى ربّه، فقدوا تلك الصدقات، فعلموا أنّ الإمام عليه السلام هو الذي كان يقوم بها.
فعن الإمام الباقر عليه السلام: "وكان عليه السلام ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربّما حمل على ظهره الطعام أو الحطب حتّى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلّا يعرفه، فلمّا توفي عليه السلام فقدوا ذلك، فعلموا أنّه كان عليّ بن الحسين.
ولمّا وضع عليه السلام على المغتسل نظروا إلى ظهره، وعليه مثل ركب الإبل ممّا كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين. "ولقد خرج ذات يوم وعليه مطرف خزٍّ، فعرض له سائل فتعلّق بالمطرف، فمضى وتركه، وكان يشتري الخزّ في الشتاء، فإذا جاء الصيف باعه فتصدّق بثمنه... "ولقد كان يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضرّاء والزمنى والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده، ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه، وكان لا يأكل طعاماً حتّى يبدأ، فيتصدّق بمثله"24...
ورأى الزهريّ عليّ بن الحسين عليه السلام (في) ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله، ما هذا؟ قال: "أريد سفراً أعدّ له زاداً أحمله إلى موضع حريز"، فقال الزهريّ: فهذا غلامي يحمله عنك، فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإنّي أرفّعك عن حمله، فقال عليّ بن الحسين: "لكنّي لا أرفّع نفسي عمّا ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحقّ الله لمّا مضيت لحاجتك وتركتني"، فانصرف عنه، فلمّا كان بعد أيّام، قال له: يا ابن رسول الله لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثر، قال: "بلى يا زهريّ! ليس ما ظننت، ولكنّه الموت وله أستعدّ، إنّما الاستعداد للموت تجنّب الحرام، وبذل الندى في الخير" 25.
5- تحريره للعبيد
من الظواهر اللاَّفتة حقّاً في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، هي علاقته بهذه الطبقة الضعيفة من أبناء المجتمع آنذاك، وهم العبيد والإماء، فقد كان يهتمّ بشرائهم وتربيتهم ثمّ عتقهم. قال بعض الباحثين:...فهو يشتري العبيد لا لحاجة إليهم، ولكن ليعتقهم، وقالوا: إنّه أعتق مئة ألف". ويقول أيضاً:..
وعرف العبدان ذلك، فباعوا أنفسهم له، واختاروا وتفلّتوا من أيدي السادة ليقعوا في يده، وجعل الدولاب يسير، والزمن يمرّ، وزين العابدين يهب الحريّة في كلّ عامّ، وكلّ شهر، وكلّ يوم، وعند كلّ هفوة، وكلّ خط، حتّى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار، والجواري الحرائر، وكلّهم في ولاء زين العابدين، قد بلغوا خمسين ألفاً أو يزيدون 26.
ويصف الإمام الصادق عليه السلام جانباً من تعامله الإنسانيّ والمميّز مع هذه الشريحة الاجتماعيّة، إذ يقول: "كان عليّ بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة، وكان إذا أذنب العبد والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه فيجتمع عليهم الأدب، حتّى إذا كان آخر الليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله، ثمّ أظهر الكتاب، ثمّ قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدّبك، أتذكر ذلك؟
فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتّى يأتي على آخرهم فيقرّرهم جميعاً. "ثمّ يقوم وسطهم، ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم، وقولوا: يا عليّ بن الحسين، إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّما عملت، كما أحصيت علينا كلّما عملنا، ولديه كتاب ينطق عليك بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلّا أحصاها، وتجد كلّما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّما عملنا لديك حاضراً، فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عفوّاً، وبك رحيماًَ، ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً، كما لديك كتاب ينطق علينا بالحقّ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناها إلّا أحصاه، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك، الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك، ويصفح، فإنّه يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ 27.
"قال: وهو ينادي بذلك على نفسه ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقف بينهم يبكي وينوح، ويقول: ربّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، فقد ظلمنا أنفسنا، فنحن قد عفونا عمّن ظلمنا، كما أمرت، فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بفنائك وببابك، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كرمت فأكرمني، إذ كنت من سؤّالك، وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم. "ثمّ يقبل عليهم، فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي ممّا كان منّي إليكم من سوء مِلكة، فإنّي مليك سوء، لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل، فيقولون: قد عفونا عنك يا سيّدنا، وما أسأت، فيقول لهم: قولوا: أللَّهم اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، وأعتقه من النّار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك،
فيقول: أللَّهم آمين، يا ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم، رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي، فيعتقهم. "فإذا كان يوم الفطر، أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي الناس، وما من سنّة إلّا وكان يعتق فيها آخر ليلة من شهر رمضان، ما بين العشرين رأساً إلى أقلّ أو أكثر. وكان يقول: إنّ لله تعالى، في كلّ ليلة من شهر رمضان عند الإفطار، سبعين ألف ألف عتيق من النّار، كلّاً قد استوجب النّار، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثل ما أعتق في جميعه، وإنّي لأحبّ أن يراني الله، وقد أعتقت رقاباً في ملكي في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النّار.
وما استخدم خادماً فوق حول، كان إذا ملك عبداً في أوّل السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثمّ أعتق، كذلك كان يفعل حتّى لحق بالله تعالى، ولقد كان يشتري السودان وما به إليهم حاجة، يأتي بهم إلى عرفات، فيسدّ بهم تلك الفرج والخلال، فإذا أفاض، أمر بعتق رقابهم، وجوائز لهم من المال"28.
ومن ذلك ما روي، أنّ جارية لعليّ بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ للصلاة، فنعست فسقط الإبريق من يد الجارية فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إنّ الله يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، قال: "قد كظمت غيظي"، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾، قال لها: "عفا الله عنك"، قالت: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ 29، قال: "اذهبي فأنت حرّة"30. وقد كان ينادي أحدهم: "يا بنيّ"، ويحنّ عليهم، ويرأف بهم، حتّى صاروا يأمنونه. فقد روي أنّه عليه السلام دعا مملوكه مرّتين، فلم يجبه، ثمّ أجابه في الثالثة، فقال له: "يا بنيّ، أما سمعت صوتي"؟ قال: بلى، قال: "فما بالك لم تجبني"؟ قال: أمنتك، قال: "الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنّي"31. لقد كان من نتيجة هذه التعاطي الخاصّ منه عليه السلام، أن صار الموالي يعتبرون أهل البيت هم المثل الأعلى للإنسان وللإسلام، وكانوا مستعدّين للوقوف إلى جانبهم في مختلف الظروف.
هذا في الوقت الذي يمثّل إدانة لمنطق الأمويّين، القائم على أساس تفضيل العربيّ على غيره، وإعطائه كلّ الامتيازات، وحرمان غيره منها بكلّ صورة، واعتباره أذلّ وأحقر من الحيوان، حتّى كان يقال: لا يقطع الصلاة إلّا كلب أو حمار أو مولى، ومنعوهم من الإرث، ومن العطاء، ومن القضاء، ومن الولاية وإمامة الجماعة، ومن الوقوف في الصفّ الأوّل منه، وأباحوا استرقاقهم، ولا يسترقّ غيرهم 32...
المصدر:جمعية المعارف الإسلامية
الهوامش:24- الصدوق: الخصال ص 517-518.
25- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 270.
26-مرتضى العامليّ جعفر: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 87، عن كتاب زين العابدين لعبد العزيز سيّد الأهل ص 47.
27- النور: 22.
28-ابن طاووس: إقبال الأعمال ص 560.
29- آل عمران: 134.
30-المفيد: الإرشاد ج 2 ص 146.
31- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 147.
32-أنظر: مرتضى العامليّ جعفر: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 89.