أوضح السيد القائد في الحلقة السابقة أن بيان النهج العام لهذا الإمام يساعد في فهم الكثير من الحوادث الجزئية في حياته.
:
كان الإمام السجاد عليه السلام ما بين استلامه للإمامة في عاشوراء 61هـ. واستشهاده مسموماً في سنة 91هـ يتابع إنجاز هدف إقامة حكومة أهل البيت. لذلك ينبغي أن نفسّر جزئيات عمل الإمام والمراحل التي مرّ بها والأساليب التي استعملها والتوفيقات التي حصلت وكل الكلمات التي بينها وكل التحركات التي قام بها والأدعية والمناجاة التي جاءت بصورة الصحيفة السجادية... كل هذه ينبغي أن تفسّر بالنظر إلى الخط العام. كذلك المواقف التي اتخذها طوال مدة الإمامة:
1 - موقفه من عبيد الله بن زياد ويزيد
الذي تميز بالبطولة والشجاعة والفداء.
2 - موقفه الذي تميز بالهدوء من مسرف بن عقبة، هذا الذي قام بتدميره المدينة واستباح أموالها بأمر من يزيد في السنة الثالثة من حكمه.
3 - حركة الإمام مقابل عبد الملك بن مروان أقوى خلفاء بني أمية وأمكرهم حيث تميز موقفه بالشدّة حيناً والاعتدال حيناً آخر.
4 - موقف الإمام عليه السلام من عمر بن عبد العزيز.
5 - تعامل الإمام مع أصحابه وأتباعه ووصاياه لأصدقائه.
6 - موقف الإمام من وعّاظ السلاطين وأعوان الظلمة. كل هذه المواقف والتحركات ينبغي أن تدرس بدقة. ووفق تصوري أرى أنه بالالتفات إلى النهج العام فإن كل هذه الجزئيات والحوادث سوف يصبح لها معاني مناسبة وواضحة. وسوف تجد عندها أن هذا الإنسان العظيم قد قضى كل حياته وسعيه في طريق الهدف المقدس وهو إقامة حكومة الله على الأرض وتحقيق الإسلام، وقد استفاد من أنضج وأفضل الوسائل، وتقدّم بالقافلة الإسلامية التي كانت بعد واقعة عاشوراء في تشرذم وتفرّق مهول، وأنجز مهمته العظمى ومسؤوليته الأصيلة (التي سوف نشير إليها بالتفصيل لاحقاً). والتي قام بها كل الأئمة وجميع الأنبياء والرجال الصالحين. مراعياً السياسة والشجاعة والدّقة في الأعمال.
وبعد 35 سنة من الجهاد الذي لم يعرف الراحة رحل عن الدنيا كريماً مرفوع الرأس وقد حمل ثقل الرسالة ليكل هذا الأمر من بعده إلى الإمام الباقر عليه السلام. إن انتقال الإمامة إلى الإمام الباقر عليه السلام ومعها مهمة إقامة حكومة الله على الأرض تظهر بصورة واضحة في الروايات.
ففي رواية نجد أن الإمام السجاد عليه السلام يجمع أبناءه مشيراً إلى محمد بن علي أي الباقر عليه السلام ويقول: "احمل هذا الصندوق وخذ هذا السلاح وهذه الأمانة بيدك". وحينما فتح الصندوق كان فيه القرآن والكتاب. تصوُّري أن ذلك السلاح يرمز إلى القيادة الثورية وذلك الكتاب يرمز إلى الفكر والعقيدة الإسلامية، وقد أودعهما الإمام السجاد عليه السلام ذلك الإنسان الواعي إلى الإمام الذي سيأتي من بعده مودعاً الدنيا راحلاً إلى عتبة الرحمة الإلهية بذهن مرتاح ووجدان هادىء ورأس مرفوع.
كانت هذه الصورة الكلية لحياة الإمام السجاد عليه السلام. ولكننا لو أردنا أن ندرس جزئيات الأحداث ينبغي علينا أولاً أن نمهّد بالوضع السابق لها إذ يوجد في حياة الإمام السجاد فصل قصير ومحدّد نذكره أولاً ثم نقوم بعدها بشرح السير العادي لحياة الإمام وتفصيل الأوضاع وأحوال الزمان والظروف التي كانت موجودة. الفصل المصيري القصير هو مرحلة ما بعد كربلاء أي فصل الأسر الذي كان قصيراً ولكنه كان مؤثراً جداً ومعبّراً حيث نجد في عين الأسر الصلابة والقوة.
لقد كان الإمام السجاد عليه السلام يرسم ملحمة بطولية عظيمة بأقواله وأفعاله خلال فترة الأسر والمرض هذه والتي تعتبر فترة مختلفة تماماً عن المرحلة الأصلية من حياته حيث أصبح الإمام يعمل على البنية التحتية باعتدال ودقة وهدوء، حتى أنه أحياناً كان يجلس مع عبد الملك بن مروان في مجلس واحد ويتصرف معه تصرفاً معتدلاً.
أمّا في هذا الفصل فإننا نشاهد الإمام بصورة ثورية هادرة بحيث أنه لم يكن يسكت على أي حديث صغير، وكان أمام الملأ يردّ بأجوبة تزلزل أركان العدو. في سوق الكوفة أيضاً وبصوت واحد وزمان واحد يخطب الإمام هو وعمته زينب وأخته سكينة فيثورون الناس ويفشون الحقائق. وفي الشام، في مجلس يزيد أو في المسجد المقابل لجمع الناس يبيّن الإمام الحقائق بأبلغ بيان بحيث تضمنت خطبه وكلماته حقانية أهل البيت بالخلافة وأفشت جرائم النظام الحاكم وبنيت مدى التخدير الشديد الذي يمارسه النظام ضد الناس الغافلين. ولا يوجد مجال هنا لذكر الخطبة وإماطة جزء من اللثام عن معانيها لأن هذا عمل مستقل ومنفصل عن موضوعنا ولكن ينبغي لكل من يريد أن يفسر هذه الخطبة أن يدرسها كلمة كلمة بالالتفات إلى هذه الأصول. تلك كانت حالة الإمام السجاد عليه السلام في مرحلة الأسر العصيبة.
* مرحلة ما بعد الأسر
قد يطرح سؤال هنا وهو أنه لماذا يقوم الإمام السجاد عليه السلامفي مرحلة ما بعد الأسر بالاعتدال والتقية ويقضي بالدعاء والأعمال المعتدلة على التحركات الثورية والشديدة، وفي مرحلة الأسر يتصرف بشدة وقوة ووضوح؟ والجواب أن مرحلة الأسر كانت فصلاً استثنائياً حيث كان الإمام السجاد عليه السلام، وبمعزل عن كونه إماماً ينبغي أن يهيء أرضية للحركة لإقامة الحكومة الإلهية والإسلامية، كان اللسان الناطق للدماء المسفوكة في عاشوراء، فالإمام السجاد عليه السلام لم يكن هنا في حقيقته بل كان لسان الحسين عليه السلام الصامت الذي تجلّى في هذا الشاب الثوري في الشام والكوفة.
فلو لم يكن الإمام السجاد عليه السلام شديداً وحاداً وصريحاً في بيان القضايا فلن يبقى في الحقيقة مجال لعمله المستقبلي. لأن مجال عمله المستقبلي دم الحسين بن علي عليه السلام الهادر كما أن دم الحسين كان أيضاً أرضية للنهضات الشيعية في طول التاريخ.
وهكذا ينبغي أن يتم العمل أولاً على تحذير الناس، ثم في ظل هذا التحذير تبدأ المعارضة الأصولية والعميقة والبعيدة المدى، ولا يمكن أن يتحقق هذا التحذير إلاّ باللسان الحاد والشديد. لذلك كان دور الإمام السجاد عليه السلام في هذه المرحلة هو دور زينب عليه السلام وهو بيان ثورة الحسين بن علي عليه السلام.
إذ أن معرفة الناس بقتل الحسين ولماذا قتل وكيف قتل سوف تؤثر على مستقبل الإسلام ومستقبل دعوة أهل البيت عليه السلام بعكس الحال فيما لو لم يعرف الناس ذلك. بناءً على هذا، فإنه ينبغي لأجل الإطلاع وتوسعة هذه المعرفة على مستوى المجتمع بذل كل ما يمكن بذله وحتى أعلى الحدود الممكنة. لهذا تحرك الإمام السجاد عليه السلام في هذا الاتجاه مثل سكينة ومثل فاطمة الصغرى وژمثل زينب نفسها ومثل كل أسير (كل بقدر استطاعته).
لقد اجتمعت كل هذه الطاقات حتى تنثر دم الحسين المسفوك في الغربة في كل المناطق الإسلامية التي مرّوا بها من كربلاء إلى المدينة، وحىن دخل الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة كان عليه أن يبيّن الحقائق أمام العيون والأنظار الباحثة والسائلة، وقد تم ذلك في أوّل وصوله، لهذا كان هذا الفصل القصير مقطعاً استثنائياً في حياته.