السيد محمد تقي المدرسي
لقد شحنت كربلاء إرادة الأمة بالعزيمة الراسخة بما بلورت من الأحاسيس الخيرة في الإنسان، ذلك لأن لهذا الإنسان مخزوناً كبيراً من العقل والإرادة والعاطفة، وهو غالباً ما يرحل عن هذه الدنيا قبل أن يستفيد من هذا المخزون الضخم. إن من أهداف رسالات السماء، ومصلحي البشر إثارة دفائن العقول، وشحذ وتحريك الإرادة والعاطفة، واستخراجهما من باطن الإنسان إلى واقعه. وهذا ما فعلته ملحمة كربلاء بالضبط، فقد كانت هي الطليعة والقدوة لجهد الإنسان في تفجير مخزونه الإرادي والعقلي والعاطفي، ففي زيارة الإمام الحسين عليه السلام نقرأ عبارات من مثل: (السلام عليك يا قتيل العبرات، وأسير الكربات).
فملحمة كربلاء ما زالت تستدر دموع الناس عامة وخاصة الموالين، ومجالس العزاء كانت وما تزال تقام على مدار أيام السنة لا سيما في شهر محرم الحرام، كما أن ذكر الإمام الحسين عليه السلام أصبح على كل لسان وفي كل مكان ومناسبة. سر خلود الإمام الحسين عليه السلام وهنا يحق أن نتساءل: لماذا كان للإمام الحسين عليه السلام مثل هذا الخلود والحضور؟
لقد قام عليه السلام بثورة، وتحول هو نفسه مع مرور الزمن إلى ثورة بل إلى مفجر للثورات في ضمير الإنسان، ولم يعد عليه السلام ذلك القتيل على رمضاء كربلاء، ولم تعد عاشوراء تلك الفترة المحدودة من الزمن؛ فلقد أصبح الإمام عليه السلام رمزاً للثورة، وحينما نذكره تجري دموعنا، وتلتهب مشاعرنا وعواطفنا من حيث نشعر أو لا نشعر.
وهكذا فقد تحول الإمام الحسين عليه السلام من شخص إلى رمز، ومن رمز إلى مسيرة، ومن مسيرة إلى حقيقة ثورية، وعندما نقول إنه عليه السلام كان ثورة، فهذا يعني إن كل قلب سيتفجر بالثورة عندما يرتبط بينبوع الإمام عليه السلام ، فحينما يذكر عليه السلام تقفز إلى الأذهان فكرة الشهادة والبطولة والفداء وكل معاني العمل من أجل الله تعالى والمستضعفين والمحرومين في الأرض، وكلما تجددت ذكرى عاشوراء تفتحت أبصارنا، وتفجرت طاقاتنا، حيث أن ملايين البشر على امتداد الأرض يتحولون في يوم عاشوراء تحولاً ثورياً يغذيهم بمعاني الثورة خلال السنة كلها. منذ أربعة عشر قرناً مضت وإلى الآن نجد الناس يستمدون من ثورة الإمام الحسين عليه السلام معاني الثورة والاندفاع والتضحية، مما يدل على أن هذه الملحمة قد تحولت إلى مسيرة، والإمام عليه السلام إلى ثورة، وهذا حدث هام في حياة الناس، ولكن السؤال المهم هو: أي ثورة أصبح الإمام الحسين عليه السلام وكيف أصبح ثورة، وفي أي مجال؟
في البدء ثورة على الذات لقد كان عليه السلام في البدء ثورة على الذات، لأن أي إنسان لا يستطيع الانتصار للرسالة دون أن يحقق انتصاراً على ذاته، ونحن لا نريد أن ننتصر لأنفسنا لأن هذه فكرة خاطئة، بل نريد أن ننصر دين الله تعالى وهذا هو الهدف الأسمى، ومتى ما نصرنا دين الله، فإننا سنكون سبباً لسعادة الآخرين وفلاحهم.
وهناك حقيقة لابد للإنسان الثوري أن يزرعها في نفسه، وهي أنه لا ينبغي له أن يستهدف الوصول إلى كراسي الحكم وبلوغ مراكز القدرة والهيمنة.. بل عليه أن يعمل للآخرين، لأن نتيجة العمل من أجل الناس هي العمل لله سبحانه، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ )(محمد/7)
وهكذا فإن الدرس الأول الذي يمكن أن نستوحيه من كربلاء الحسين عليه السلام هو أن النصر لله وحده، لا النصر المؤدي إلى إحراز المناصب. وإذا كان ثمن استقامة الدين الإسلامي هو دم الإمام الحسين عليه السلام فإنه سوف لن يبالي، بل سيدفع الثمن راضياً مطمئن النفس، رغم إنه عليه السلام كان بإمكانه أن يختار طريقاً آخراً للخلاص من الموت، ولكنه صمم على مواصلة مسيرته الرسالية من أجل نصرة الله تعالى والحق.
التضحية يجب أن تكون شاملة ونحن نستلهم من ذكرى عاشوراء التي تتجدد كل عام أن الإنسان عندما يريد أن يهب نفسه لله عز وجل فلا يجب أن يطلب لنفسه شيئاً مما وهب، لأن الأفضل أن يهب الكل، لأن عليه أن يسقط من فكره الذاتية.
فإسقاط الاعتبارات الذاتية هو الهدف الذي من أجله ثار الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، فلقد أعطى عليه السلام جميع من حوله الإذن بالمبارزة، وقد كان علي الأكبر عليه السلام أول من بارز وهو أحب أبنائه إلى قلبه، فبقدر التصاق الأئمة والمصلحين بمبادئهم ورسالاتهم يلتصقون بالمعاني الإنسانية، فهم يبلغون القمة في شفقتهم على أبنائهم، لا سيما إذا كان الابن يمثل في ذاته رسالتهم مثل علي الأكبر عليه السلام الذي كان أشبه الناس خلقاً وخُلقاً برسول الله (ص) ، فهو رمز لرسول الله الذي هو بدوره رمز للأخلاق الفاضلة، والقيم السامية.. ومع ذلك فقد أذن لأبنه بالمبارزة، وقدمه في طليعة أهل بيته.
وهذا يعني أن الإمام الحسين عليه السلام وهب كل ما يملك في سبيل ثورته، فقد ضحى بابنه الطفل البالغ من العمر ستة أشهر، هذا الطفل الذي كان يمثل بالنسبة للحسين عليه السلام أملاً كبيراً، لأن الطفل امتداد للإنسان، وحب الإنسان لطفله إنما هو لإبراز شخصيته في المستقبل، وتنشئته نشأة صالحة، وهذا هو الحب الذي ينبعث ويشتد كلما شعر الإنسان بالخطر. والإمام الحسين عليه السلام لم يشعر بالخطر فحسب وإنما كان يعلم علم اليقين إنه سيموت، ومع ذلك فقد أتى بابنه معه، وهو يعلم طبيعة نوايا القوم، وماذا سيفعلون به، ولكنه رغم ذلك ذهب ليطلب له شربة من الماء، فإذا به يذبح وهو في حضن والده.