يقول تعالى: «لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين»[1].
في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة "بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم" (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد "معركة أحد" وهو: لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟
فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم أي إذا كنتم قد تحملتم كل هذه الخسائر، وأصبتم بكل هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.
والجدير بالاهتمام - في المقام - هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة "من" التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادئ الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو: أن المن - كما قال الراغب في مفرداته: هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة: المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل،
فيقال: من فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظم أحد - في القول والادعاء - ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح. وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاما للصنائع والنعم في القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة. أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين سيستفيدون - بالنتيجة والمآل - من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملا دون غيرهم.
ثم إن الله سبحانه يقول: من أنفسهم أن إحدى مميزات هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كل احتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريبا عنها، غير عارف بها، وحتى يلمس آلام الانسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثم يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.
هذا مضافا إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن التبليغ بلسان العمل أشد تأثيرا، وأقوى أثرا من التبليغ بأية وسيلة أخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان المبلغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية،
وبذات غرائزه وبنائه الروحي. فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة - مثلا - كان للبشر الذين أرسل الأنبياء إليهم أن يقولوا: إذا كان الأنبياء لا يعصون أبدا، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة. وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها. ولهذا أختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، واحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني الإنسان.
* الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
________________________________________ [1] - سورة آل عمران / 164.