لقد قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ثلاثة معسكرات بثلاثة خطوطٍ منفصلة، هم الناكثون والقاسطون والمارقون. وكلّ واحدة من هذه الوقائع تدلّ على تلك الروح الرفيعة للتوكّل على الله والإيثار والبعد عن الأنانيّة والإنّية، في أمير المؤمنين عليه السلام . وفي النهاية استُشهد على هذا الطريق، حتّى قيل بشأنه إنّ عدل عليّ عليه السلام قد قتله. لو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام مريداً للعدالة، وعمد بدل ذلك إلى رعاية هذا وذاك، وتقديم الشأنية والمقام والشخصية على مصالح العالم الإسلامي لكان أكثر الخلفاء نجاحاً وقدرةً، ولما وجد له معارضاً.
لكنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو ميزان الحقّ والباطل. ولهذا كان عليه السلام يتحرّك وفق جوهر التكليف دون أيّة ذرّة من تدخّل الأنا والمشاعر الشخصية والمنافع الذاتية، وقد تحرّك على هذا الطريق الّذي اختاره. هكذا كانت شخصية أمير المؤمنين عليه السلام .
لهذا فإنّ عليّاً عليه السلام هو في ا. هكذا كانت حياته عليه السلام ، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾. فلم يكن في الشهادة عظيماً فحسب، ولم يكن عند الممات ممّن يفدي نفسه فحسب، بل على مرّ حياته كان دائماً يقدّم نفسه في سبيل الله.
أثبت أمير المؤمنين خلال هذه المدّة أنّ الأصول الإسلاميّة والقيم الإسلامية الّتي وُجدت في مرحلة عزلة الإسلام وفي مرحلة صغر المجتمع الإسلاميّ، هي قابلةٌ للتطبيق مثلما أنّها كذلك في مرحلة الرفاهية والتوسّع والاقتدار والتقدّم والازدهار الاقتصاديّ للمجتمع الإسلامي. ومهم جداً أن نلتفت إلى هذه النقطة.
فلقد نزل الوحي الإلهيّ بالأصول الإسلامية، والعدالة الإسلامية، وتكريم الإنسان، وروح الجهاد، والبناء الإسلاميّ، والمرتكزات الأخلاقية والقيمية الإسلامية، فـي زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وتمّ تطبيقها من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فـي المجتمع الإسلامي ضمن الحدود المتاحة. ولكن كيف كان المجتمع الإسلاميّ فـي عهد الرسول؟ تأسّست القيم الإسلامية فـي بيئة صغيرة وضئيلة، إذ حتى عشر سنوات لم يكن سوى المدينة، وكانت مدينة صغيرة تضم بضعة آلاف من الناس، ثمّ فُتحت مكّة والطائف؛ وهي منطقة محدودة بثروات قليلة جدّاً، فالفقر كان شاملاً، والإمكانات الّتي كانت فـي متناول أيديهم ضئيلة جدّاً... مضت خمس وعشرون سنة على رحيل الرسول عن الدنيا. وقد ازدادت مساحة الدولة الإسلامية، خلال هذه المدّة، مئات الأضعاف، لا ضعفين أو ثلاثة أو عشرة.
فيوم تسلّم أمير المؤمنين عليه السلام الحكم كانت الأرض التي تمتدّ من آسيا الوسطى حتّى شمال أفريقيا - أي مصر - داخلةً ضمن نطاق الدولة الإسلامية. أمّا الدولتان العظميان المجاورتان للدّولة الإسلامية فـي بداية الأمر - أعنـي إيران والروم - فقد تلاشت إحداهما نهائياً وهي الدولة الإيرانية، وصارت كافّة الأراضي الإيرانية بيد الإسلام. ودخلت أجزاء مهمّة من الأراضي الرومانية - بلاد الشام وفلسطين والموصل ومناطق أخرى - أيضاً فـي دائرة الإسلام. مثل هذه الرقعة الواسعة كانت بيد الإسلام يومذاك. إذاً توفّرت ثروات طائلة ولم يعد ثمّة فقر وعوز وشحّ طعام. كان الذهب رائجاً، والأموال وفيرة، واجتمعت ثروات طائلة، وأضحت بالتالـي الدولة الإسلامية ثريّة.
الكثيرون تمتّعوا برفاه جاوز الحدود. لو لم يكن الإمام عليّ عليه السلام في البين، لربّما كان التاريخ سيحكم قائلاً إن المبادئ الإسلامية والقيم النبوية كانت جيّدة لفترة المدينة النبوية فقط، أي لذلك العهد الّذي تميّز بضآلة حجم المجتمع الإسلاميّ وفقره. أمّا بعد أن اتّسع المجتمع الإسلاميّ واختلط بالحضارات المختلفة حيث وفدت من إيران والروم ثقافات وحضارات شتّى إلى حياة الناس، وانضوت شعوب مختلفة تحت مظلّة المجتمع الإسلامي، فلا تبقى تلك المبادئ كافية ولا قادرة على إدارة البلد".
وقد أثبت أمير المؤمنين عليه السلام ، طوال هذه السنوات الخمس، بممارساته وسيرته وأسلوبه فـي الحكم أنّ الأمر على العكس من ذلك؛ فتلك المبادئ نفسها الّتي كانت متألّقة في صدر النبوّة - ذات التوحيد، والعدل، والإنصاف والمساواة بين الناس - هي ممكنة التطبيق على يد خليفة قويّ كأمير المؤمنين عليه السلام .
هذا شيء خلّده التاريخ. ومع أنّ هذا المنهج لم يستمرّ بعد أمير المؤمنين عليه السلام ، لكنّه أثبت أنّ الحاكم الإسلاميّ ومديري المجتمع والمسؤولين المسلمين إذا قرّروا وعزموا وكانوا أصحاب عقيدة راسخة لأمكنهم تطبيق نفس تلك المبادئ فـي عهد اتّساع رقعة الدولة الإسلامية وظهور ظروف جديدة ومتنوِّعة للحياة، حتّى ينتفع بها الناس... فمن الواضح أنّ إقامة العدالة الاجتماعية فـي مجتمع يضمّ عشرة أو خمسة عشر ألف نسمة فـي المدينة تختلف اختلافاً هائلاً عنها فـي مجتمع يضم عشرات الملايين أو مئات الملايين كما كان الحال في عهد أمير المؤمنين عليه السلام . وقد نهض أمير المؤمنين عليه السلام بهذه المهام.
الإمام علي في كلام الولي