لقد عاش الإمام الهادي عليه السلام 42 سنة، قضى 20 سنة منها في سامرّاء، حيث كان يعمل ويعيش ويمتلك مزرعةً. وكانت سامرّاء في الواقع بمثابة معسكر بناه المعتصم لغلمانه التّرك المقرّبين له
- وهؤلاء التّرك هم غير الأتراك الّذين يعيشون في إيران أو في آذربايجان أو سائر النقاط، والّذين أحضرهم من تركستان وسمرقند، ومن منطقة مانغوليا وآسيا الشرقية واحتفظ بهم في سامرّاء. وهؤلاء الأتراك، ولحداثة إسلامهم، لم يكونوا يعرفون الأئمّة ولا المؤمنين ولا يفهمون عن الإسلام شيئًا. لهذا صاروا يُضايقون النّاس وأوجدوا بينهم وبين العرب ـ أهالي بغداد ـ النّزاعات والمشاجرات.
وفي مدينة سامرّاء نفسها، اجتمع عددٌ ملحوظٌ من كبراء الشّيعة في زمن الإمام الهادي عليه السلام وتمكّن الإمام عليه السلام من إدارتهم، وإيصال رسالة الإمامة من خلالهم إلى مختلف مناطق العالم الإسلامي.
فالرّسائل وهذه الشّبكات الشيعيّة، في قم وخراسان والريّ والمدينة واليمن، وفي المناطق البعيدة، وفي جميع أقطار العالم، هي الّتي استطاعت أن تروّج وتنشر وتزيد من المؤمنين بهذا المذهب، يوماً بعد يوم. وقد استطاع الإمام الهادي عليه السلام أن يقوم بكلّ هذه الأعمال، تحت ظلّ بريق السّيوف الحادّة والدمويّة لأولئك الخلفاء الستّة ورغمًا عن أنوفهم. ويوجد حديثٌ معروفٌ حول وفاة الإمام الهادي عليه السلام، يُعلم من عباراته تواجد جمعٍ ملحوظٍ من الشّيعة في سامرّاء، لم يكن الجهاز الحاكم يعرف عنهم شيئًا، لأنّه لو كان يعلم بهم لكان قضى عليهم عن بكرة أبيهم. لكنّ هذه الجماعة، ولأنّها استطاعت أن توجد شبكة قويّة، فإنّ الجهاز الحاكم لم يتمكّن من الوصول إليها.
إنّ يومًا من جهاد هؤلاء العظماء - الأئمّة عليهم السلام - يؤثّر بمقدار سنوات. ويومٌ واحدٌ من حياتهم المباركة يساوي سنواتٍ من حياة جماعةٍ تعمل ليل نهار على مستوى التّأثير في المجتمع. هؤلاء العظماء قد حفظوا الدّين بهذه الطّريقة، وإلّا فإنّ دينًا يقع على رأسه المعتزّ والمتوكّل والمعتصم، والمأمون، ويكون علماؤه رجالٌ كيحيى بن أكثم ـ الذي رغم أنّه كان عالم البلاط، فقد كان من الفسّاق والفجّار المتجاهرين من الدّرجة الأولى ـ لا ينبغي أساسًا أن يبقى، ولكان ينبغي والحال هذا، أن يُجتثّ من جذوره وينتهي كلّ شيء.
فجهاد الأئمّة عليهم السلام وسعيهم لم يحفظ التشيّع فحسب، بل القرآن والإسلام والمعارف الدينيّة، وهذه هي خاصّية العباد الخالصين والمخلصين وأولياء الله. فلو لم يكن للإسلام أمثال هؤلاء من أولي العزم، لما استطاع أن يعود غضًّا طريًّا ويوجد هذه الصّحوة الإسلاميّة بعد 1230 سنة، بل كان ينبغي أن يزول شيئًا فشيئًا. فلو لم يكن للإسلام، هؤلاء الّذين جذّروا هذه المعارف العظيمة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأذهان على مرّ التاريخ الإنسانيّ والإسلامي، لكان ينبغي أن يزول من الوجود وينتهي كلّ شيء، ولا يبقى منه أيّ شيء.
ولو بقي، فلم يكن ليبقى من معارفه شيءٌ، كالمسيحية واليهودية، اللتين لم يبقَ من معارفهم الأساس أيّ شيءٍ تقريبًا. فأن يبقى القرآن سالمًا والحديث النبويّ وكلّ هذه الأحكام والمعارف الإسلاميّة، وذلك بعد أكثر من 1000 سنة، وأن تتمكّن من أن تبرز في قمّة المعارف الإنسانيّة، فهذا ليس بالأمر الطبيعيّ، بل كان هناك عملٌ غير طبيعيّ يؤدَّى من خلال الجهاد. وبالتأكيد، كان على طريق هذا العمل الكبير الضرب والسجن والقتل وكلّ هذه لم تكن بالنسبة لهؤلاء العظماء شيئًا.
يوجد حديثٌ حول طفولة الإمام الهادي عليه السلام، عندما أحضر المعتصمُ الإمام الجواد عليه السلام من المدينة إلى بغداد، في العام 218 هجريّة، أي قبل شهادته بسنتين، وبقي الإمام الهادي عليه السلام حينها مع أهله في المدينة، حيث كان له من العمر وقتها ست سنوات. وبعد أن أُحضر الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد سأل المعتصم عن أسرته وأهله، وعندما سمع أنّ ابنه البكر عليّ بن محمّد ابن ست سنوات، قال إنّه خطرٌ ويجب أن نُفكّر بحلٍّ له.
وقد أمر المعتصم رجلًا من أقاربه أن يذهب من بغداد إلى المدينة، وأن يجد فيها من هو عدوّ لأهل البيت، فيودع عنده هذا الطفل ليكون معلّمًا له ويربّيه ليصبح عدوًّا لأسرته ومنسجمًا مع الجهاز الحاكم. فجاء هذا الشّخص من بغداد إلى المدينة، واختار أحد علمائها المدعوّ الجنيدي الّذي كان من أشدّ المخالفين والمعاندين لأهل البيت - وكان في المدينة عددٌ من أمثال هؤلاء العلماء ــ لينهض بهذا العمل، وقال له: إنّني مأمورٌ أن أجعلك مربّيًا ومؤدِّبًا لهذا الطفل، ولا ينبغي أن تسمح لأيّ شخصٍ بالتّواصل معه أو الارتباط به، وأُريدك أن تُربّيه بهذه الطّريقة وبهذا الشكل. وقد سجّل التاريخ اسم هذا الشّخص الجنيدي. وكان الإمام الهادي عليه السلام - كما ذكرت - بعمر ست سنوات في ذلك الوقت، وكان الأمر أمر الحكومة، فمن الّذي يستطيع أن يعترض على مثل هذا الأمر؟! وبعد مدّةٍ جاء أحد المقرّبين من الجهاز الحاكم ليطّلع على الجنيدي، ويسأل عن أحوال ذلك الطفل الّذي أودعه إيّاه.
فقال الجنيدي: أيّ طفلٍ هذا، أهذا هو الطفل؟، إنّني أُبيّن له مسألةً في الأدب، فيُبيّن لي أبوابًا من الأدب، حيث أتعلّم منه! فأين درس هذا الطفل وتعلّم؟! وأطلب منه أحيانًا عندما يدخل إلى الحجرة أن يقرأ سورةً من القرآن، وعندما يدخل (وهو يريد أذيّته) يسأل أيّ سورةٍ أقرأ، فأقول له: اقرأ سورة كبيرة، كسورة آل عمران مثلًا، فيقرأها عليّ ويبيّن لي مواضع الإشكال في قراءتها. إنّهم علماءٌ وحفّاظٌ للقرآن، وعلماء بالتأويل والتفسير، أيّ طفلٍ هذا؟!. وقد استمرّ ارتباط هذا الطّفل ــ الّذي كان في الظّاهر طفلًا، ولكنّه وليّ الله، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾1 - بهذا الأستاذ لمدّة، إلى أن أصبح هذا الأستاذ من الشّيعة المخلصين لأهل البيت
المصدر:انسان بعمر 250 سنة(للامام الخامنئي)