من منّا لا يعرف كفاح فاطمة عليها السلام وكيف كانت حياتها تجري في بيت زوجها علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ فالتاريخ يحدثنا أنها كانت قليلة الهجوع في لليل، وكانت تستغفر الله في الأسحار، فتقف في محرابها للصلاة حتى تورمت قدماها من كثرة العبادة والدعاء... وكانت تذوب رقة وخشوعاً في صلاتها وعند دعائها، ولدى قراءتها القرآن الكريم... فإذا مرت بآية فيها وعد أو وعيد رددتها في بكاء وحزن ودموع... هذا كان بعض شأنها في الليل... أما في النهار، فقد كانت فاطمة تطحن بالرحى حتى أثّرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وكنست البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأو قدت تحت القدر حتى طبع الدخان أثره على ملابسها وترك لونه على ثيابها وقت العمل بالطبع وبلغ بها الحال أن دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات صباح، وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، وطفلها يبكى إلى جانبها، فبكي النبي، وقال "تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة "
وذات مرة، وقفت فاطمة الزهراء عليها السلام بين يدي أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر اليها، وقد بدت آثار التعب على وجهها، من شدة الجوع والكفاح، فوضع يده الكريمة على صدرها، ورمق السماء بطرفه، وراح يدعو لها، والدموع تترقرق في عينيه، وهو يقول: "يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا، لحلاوة الآخرة ". وقد تكرر هذا الموقف من رسول الله لفاطمة، وفي كل مرة يكرر عليها هذه العبارة: يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة... وفي ذلك درس عظيم لكل فتاة تبحث عن النجاح في الحياة.. فيه درس عظيم لكل امرأة تفتش عن السمو.. تفتش عن التكامل في الإسلام. يقول جابر بن عبدالله الأنصاري رحمه الله: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة، وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا بنتاه تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة، فقالت: الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه .
إن فاطمة الزهراء من خلال سيرتها الذاتية هذه تعطي الفتاة المسلمة أعظم درس في الحياة، يؤدي بها إلى سلوك الصراط المستقيم لتعيش في ظلال رحمة الله سبحانه. أجل.. إن فاطمة تعلم المرأة كيف تصبح فتاةً مسؤولية...، تتحمل مسؤولية الأسرة، والمجتمع في ثقة وشجاعة. ونعلم من سيرة الزهراء أنها لما أرهق بدنها الكدح والنضال، وأتعبها الطحن بالرحي، جاءت أباها تمشي على استحياء، تطلب منه خادمةً تساعدها على تخفيف أعباء المنزل، وثقل الحياة العائلية التي كانت تكابدها ليلاً نهاراً، علّها تخفّف عنها بعض همومها. وقفت بين يدي أبيها رسول الله، مطرقةّ برأسها حياة بعد أن سلمت عليه، فرد عليها السلام، وكان من عادته أنه إذا أقبلت عليه فاطمة، كان يقوم إجلالاً لها ويقبل يدها ثم يجلسها في مجلسه، فجلست وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، وما كادت تجلس في مكانها، حتى سألها الرسول الأعظم قائلاً: ما جاء بك... وما حاجتك أي بنية ؟ فغلبها الحياء ولم تتمكن من سؤال النبي، فقالت: جئت لأسلم عليك.. وبعد لحظات قامت فودعها النبي، ورجعت إلى دارها دون أن تحقق هدفها الرامي إلى طلب فتاة لخدمة المنزل. وبعد هذا اللقاء بأيام وجدت فاطمة نفسها لا تستطيع مواصلة العمل دون وجود فتاة إلى جانبها في البيت، فقررت أن تشكو حالها إلى أبيها الحبيب المصطفى لعله هذه المرة يلبي نداءها، ويستجيب لدعوتها، خصوصاً وقد انتصر المسلمون في معارك الجهاد، فاحرزوا غنائم كثيرة وأموالاً عظيمة.. فقامت فاطمة الزهراء عليها السلام من ساعتها، وأتت أباها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلبت منه خادمة، فقال لها: يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم وم الدنيا وما فيها .
قالت: وما ذلك يا رسول الله ؟ قال: "تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تخنمين ذلك بلا إله إلاّ الله، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها ". وإليك قضيته كما نقله كتاب من لا يحضره الفقيه: روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل من بني سعدٍ: ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء سلام الله عليها ؟ إنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها15، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأو قدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها 16 فأصابها من ذلك ضرّ شديد، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.
فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حداثاً، فاستحيت فانصرفت، فعلم صلى الله عليه وآله وسلم أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا، ثمّ قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف ـ وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً، فإن اذن له وإلا انصرف ـ فقلنا: وعليك السلام يا رسول الله ادخل، فدخل وجلس عند رؤؤسنا، ثمّ قال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمّد ؟ فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله اخبرك يا رسول الله، إنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها، وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّما أنت فيه من هذا العمل. قال: أفلا اعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم ؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدةً. فأخرجت فاطمة رأسها وقالت: رضيت عن الله وعن رسوله، رضيت عن الله وعن رسوله .
وعادت فاطمة إلى دارها تحمل معها أعظم هدية ربّانية، وأكبر عطاء تربوي فكري. تلكم كانت قصة حديث تسبيح فاطمة الذي أطلقوا عليه اسم تسبيح الزهراء، وشاع صيته في الآفاق وأصبح المسلمون يرددونه في أعماق كل صلاة في خشوع ودموع. ولكن هل انتهت قصة هذا التسبيح العظيم ـ تسبيح الزهراء ـ ؟ كلا.. بالطبع إن تسبيح الزهراء ـ سلام الله عليها يعتبر شعيرة عظيمة، من شعائر الله التي هي من تقوى القلوب. ونحن نعرف أن فاطمة لها أسلوب خاص، وسيرة ذاتية تتعامل بها مع شعائر الله.. إن مفهوم الشعائر عند فاطمة يختلف عن مفهوم الآخرين للشعائر.. ولكي تأتي الصورة ـ صورة البحث ـ أكثر وضوحاً، فإنه لا بد من الدخول في الموضوع من أبوابه العريضة، ولكن باختصار شديد مع الوضوح الكاملي في الفكرة والتعبير.
إن الصفة الملازمة لفاطمة الزهراء ـ هي أنها تستطيع أن تصور الإسلام في كل خطوة تخطوها، وفي كل شيء تلمسه بيدها الطاهرة وهي ـ أي هذه الصفة ـ وإن كانت موجودة في كل أهل البيت ـ عليهم السلام ـ إلا أنها تتألق في شخص الصديقة فاطمة الزهراء، بشكل يشد القلوب، ويبهر الألباب.
إن فاطمة تصوّر الإسلام بكل أبعاده حيث تجلس إلى الرحى تطحن فيها القمح والشعير ـ لتسد أود أبنائها وبعلها ومن يلوذ بها في ظل أهل البيت. وإن فاطمة تصور الإسلام بكل أبعاده، حين تخرج مع أبيها رسول الله في ساحات القتال والجهاد، تضمّد جراحه وجراح بعلها الوصي، وتمسح عنهما الآلام والأحزان، كانت تصور الإسلام، عندما تستقبل بطل الإسلام علياً أمير المؤمنين، وهو عائد من الحرب، فيدفع السيف لها قائلاً: أفاطم هاك السيف غير ذمـيم فــلست بـرعديدٍ ولا بـملميم أجل.. إنها تصور الإسلام عندما ما تخلع ثوبها ليلة الزفاف وتدفعه لفتاة فقيرة تبدو عليها رقة الحال، ويسألها أبوها عن ثوبها الجديد، فتجيبه بقولها: أبتاه يا رسول الله لقد طرقت عليّ الباب فتاة فقيرة تطلب ثوباً فأخذت ثوبي القديم القديم لأدفعه لها.. ولكنني تذكرت قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّون﴾.
وأنا أحب الثوب الجديد فآثرتها به على نفسي فخلعت ثوبي الجديد وأعطيته لها ! أية عظمة هذه، وأية نفس كبيرة تطالعنا بها حياة فاطمة، وسيرتها العذبة التي تتضوع عطر الجنة ؟! إن فاطمة تخطوها.. وبكل كلمة تقولها.. إن ذلك يظهر بوضوح في خطبتها المشهورة المليئة بالفكر، والعطاء، والمبادرة، ان شعائر الإسلام تتحول إلى سلوك عندها فإذا أنت أمام شعائر تفور بالحركة، والعطاء، وتتفجر بالصور الساخنة، والمعاني الحية وتتحول في النهاية إلى واقع معيوش أساسه الإيمان وركائزه الفضائل وهيا كله التسامح والرحمة.
ليس عند فاطمة شعائر جامدة، ولا عبادة راكدة، ولا طقوس فارغة من المحتوى، بل الشعيرة الدينية عند فاطمة متدفقة بالعطاء، مليئة بالمبادرة والانطلاق الصائب نحو الهدف والغاية إن الشعيرة الدينية ـ أية شعيرة ـ من دون فاطمة، تغدو شعيرة جامدة باهتة، تجري في رتابة مملّة، فإذا لمستها فاطمة الزهراء، لمسة واحدة، اهتزت، وربت وأعطت ثمارها، ان لمسة واحدة من فاطمة للشعائر، تكفي لتحويله إلى سلوك عملي يمشي في الناس مشية لنور.. وذلك أن فاطمة لا تتامل مع الشعارات الفارغة، ولا تتعاطى مع الأوهام.. وإنما هي تؤمن بالحق ولا تتعامل إلاّ مع الحق والحقيقة.
إن فاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ لتضرب آباط الإبل بحثاً عن الحق ورواده.. علماً بأن الحق لا يتمثل إلاّ بها ولكن مع هذه كله، ففاطمة البتول، تفتش أبداً عن أهل الحق، ولا تمشي إلا في طريق الحق، كوان قلّ سالكوه، إنها لا تستوحش من طريق الحق لقلة سالكيه.. فإذا كان هناك واحد يمشي معها في هذا الطريق، فإن ذلك يدخل السرور في قلبها، ويجعلها تأنس برفيق الإيمان ولهذا كانت إذا نظرت إلى وجه الإمام علي، تدفقت السعادة في وجهها وإذا نظر علي اليها أشرق وجهه بالبشرى، حتى كان يقول: إذا رأيت فاطمة انجلت عني الهموم والأحزان، فهي حين علمها أبوها النبي، التسبيح المعروف بتسبيح الزهراء، أخذته بقوة لتحوله ـ رأساً ـ إلى منهج عملي، وسلوك يتحرك بنوره في الناس.. فهي بدل أن تذهب إلى بيتها نراها ذهبت إلى قبر الحمزة بن عبد المطلب لتصنع من تراب القبر حبات لمسبحتها التي ستدير تسبيح الزهراء فيها !. ومن هذا القصة والقضية التي حصلت للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام شرّع هذا التسبيح المنسوب إليها.
* من لا يحضره الفقية: 1 / 320 ـ 321.