عند ما وقف السبط الشهيد في ظهيرة يوم عاشوراء يهتف قائلاً: "أَمَا مِنْ مُغِيثٍ يُغِيثُنا لوجه الله؟ أَمَا مِنْ ذابٍّ يَذُبّ عَن حَرَمِ رسولِ الله؟) [1]" لم يجبه أحدٌ في تلك الأرض المليئة بالأعداء الحاقدين، والذين مُلِئَت بطونهم من الحرام.
كلا، لم يجبه يومئذٍ أحدٌ من شيعة آل أبي سفيان، الذين تجرّدوا حتى من قيم العرب فأصبحوا أذلاّء خاسئين. ولكنك أيها الموالي تجيب مولاك الإمام الحسين عليه السلام، وتقول له - بكل عزمات فؤادك وخلايا بدنك-: "لَبَّيْكَ دَاعِيَ الله. إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ، ولِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ ، فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وسَمْعِي وبَصَرِي"[2].
ومن أجل ذلك قلبك ينبض بحب الله والنبي وأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، وشفاهك تلهج بكلمات لا تنقطع: لبيك يا حسين.. لبيك داعي الله.. إنّ كلمة "يا حسين" حفرت رافداً إيمانياً في فۆادك- كما رافدي دجلة والفرات - رافداً متصلاً بطف الحسين وبكربلاء الكرامة.
فإذا بالإمام الحسين عليه السلام أضحى لك - كما جعله الله- مصباح هدى وسفينة نجاة. معراج الكمال إنّ الموالي والمحب الحقيقي للإمام الحسين عليه السلام يسمو - بإذن الله تعالى- في معارج الكمال، وفي ذات الطريق الذي سلكه أصحاب السبط الشهيد عليه وعليهم سلام الله.
ألا ترى إلى ذلك الشاب الذي اندفع إلى المعركة وهو يرتجز قائلاً: أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير إنه لم ينتسب إلى عشيرة أو بلد، بل إلى المبدأ العظيم الذي قاتل من أجله، والذي تمثّل في نصرة ابن رسول الله السبط الشهيد. أمّا عابس، فتراه ينزع لَامَةَ حربه ويندفع إلى قتال الأعداء، فيقول له أحدهم: أجُنِنْتَ يا عابس؟ فيجيب: حُبُّ الحسين عليه السلام أجنّني. أما الشاب الشهم قاسم بن الحسن عليهما السلام، فيقول لعمِّه السبط - حين سأله عن الموت -: في نصرتك أحلى من العسل.
وهکذا نجله علي الأكبر، والذي كان مثلاً لجده الرسول في الخَلْق والخُلُق، تراه يتساءل ويقول لوالده : أوَ لَسْنَا على الحق؟ قال: بلي. فقال: إذاً لا نبالي أوَقَعنا على الموت أو وَقَع الموت علينا. أمّا الَمثَل الأسمى في شهداء كربلاء، الذي ضرب أروع الأمثلة في نصرة الدين، والدفاع عن الحق، والجهاد في سبيل الله أعني: أبا الفضل العباس عليه السلام، فتراه يرتجز وهو يخوض غمرات الأسنّة والسّهام ويقول
- وقد قُطِعَت يمينه-: واللهِ إن قطعتمُ يميني إني أحامي أبداً عن ديني وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ نجلِ النبيِّ الطاهرِ الأمينِ إنّ العباس عليه السلام - الذي شهد له الإمام الصادق عليه السلام بقوله: (كان عمُّنا العباس عليه السلام نافذَ البصيرة، صُلْبَ الإيمان)[5]
- إنه بذاته مدرسة متكاملة. مدرسة في بطولته النادرة.. في إيمانه الصادق.. في صبره واستقامته. وأمّا شقيقته الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى عليها السلام، فقد كانت الجزء المكمِّل لمسيرة السبط الشهيد عليه السلام، وكانت مثلاً أعلى للصبر والإستقامة والتحدي.. وهي القائلة – بعد ما رأت من المصائب العظمى – حينما سألها الطاغية ابن زياد: كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وأَهْلِ بَيْتِكِ؟ فَقَالَت: مَا رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيْلاً[6].
وهكذا حملت – إلى جانب الإمام زين العابدين عليه السلام- مشعل الإعلام الرسالي بعد عاشوراء، لنشر معالم النهضة الحسينية وأهدافها في الآفاق البعيدة في أعماق المكان والزمان.
أخي الموالي، يجدر بك اليوم ـ أن تسير على خطى شهداء کربلاء، فلتکن همّتك عالية، حتى تبلغ أقصى أمانيك، فإذا زرتَ السبط الشهيد عليه السلام تطلّع إلى أسمى الدرجات، وقل بكل ثقة وبكل جد: "فَأَسْأَلُ اللَّهَ الَّذِي أَكْرَمَنِي بِمَعْرِفَتِكُمْ، ومَعْرِفَةِ أَوْلِيَائِكُمْ، وَرَزَقَنِي الْبَرَاءَةَ مِنْ أَعْدَائِكُمْ: 1- أَنْ يَجْعَلَنِي مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، 2- وَأَنْ يُثَبِّتَ لِي عِنْدَكُمْ قَدَمَ صِدْقٍ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، 3- وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُبَلِّغَنِي الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّه [9].
لتعلم إنّ الله سبحانه قد خلق الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ، وإنّه يبتليه أبداً: فهل يشكر ربه بانتخاب نهج الحق الذي يمثّله النبي وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام، أم يكون كفوراً؟ فقال سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [10].
علينا أن نتخذ من هذه المناسبة الکريمة وسيلة لإصلاح أنفسنا، ورفع مستوي أخلاقنا إلي حيث أخلاق أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، حتى نحقق - بإذن الله تعالي- أهداف مجتمعنا في حياة کريمة تحت ظل الإسلام الحنيف.
المصدر:محمد تقي المدرسي- بتصرف
المصادر: [1] - بحار الأنوار، ج 45، ص 13.
[2]- كامل الزيارات، ص230.
[3] - تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج6، ص40
. [4] - مستدرك الوسائل، الشيخ النوري، ج10، ص183.
[5] - مقتل الحسين عليه السلام، أبو مخنف الأزدي، ص176.
[6] اللهوف على قتلى الطفوف، ص 160.