حديث في حبّ الدنيا
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه، جعل الله الفقر بين عينيه وشتّت أمره ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره"1.
ما هي حقيقة الدنيا المذمومة؟
للدنيا والآخرة إطلاقات حسب آراء أرباب العلوم ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم. ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء المصطلحات العلمية بمهمّة، فإنّ بذل الجهد في فهم الاصطلاحات، والردّ والقبول، والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد. وإنّما المهمّ في هذا الباب هو فهم الدنيا المذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرّز منها، وما يُعين الإنسان على النجاة.
يقول المحقّق الخبير والمحدّث المنقطع النظير مولانا المجلسي عليه السلام: اعلم أنّ الذي يظهر من مجموع الآيات والأخبار على ما نفهمه، أنّ الدنيا المذمومة مركّبة من مجموع أمور تمنع الإنسان من طاعة الله وحبّه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة، ضرّتان متقابلتان. فكلّ ما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا، كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به، ولصرفها في وجوه البرّ، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فإنّ كلّ هذه الأمور تُعدّ من أعمال الآخرة وإن كان عامّة الخلق يعدّونها من الدنيا. والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كانت مع الزهد والمشقّة فإنّها من الدنيا، لأنّها ممّا يُبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه، مثل أعمال الكفّار والمخالفين2.
ونقل المجلسي عليه السلام عن أحد المحقّقين: "دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يُسمّى الدنيا وهي كلّ ما قبل الموت، والمتأخّر يُسمّى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكلّ ما لك فيه حظّ وغرض ونصيب وشهوة ولذّة قبل الموت، فهي الدنيا في حقّك..."3.
الدنيا أحياناً تُطلق على نشأة الوجود النازلة والتي هي دار تصرّم وتغيّر ومجاز، والآخرة تُطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان وباطنه والتي هي دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحقّقتان لكلّ نفس من النفوس وشخص من الأشخاص.
وعلى العموم إنّ لكلّ موجود مقام ظهور وملك وشهود، وهو تلك المرتبة الدنيوية النازلة، والمقام الباطني والملكوت الغيبيّ هو النشأة الأخروية الصاعدة. والنشأة الدنيوية النازلة وإن كانت ناقصة بذاتها ومن آخر مراتب الوجود، إلّا أنّها لمّا كانت مهد تربية النفوس القدسية ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنّها غدت من أحسن مشاهد الوجود وأعزّ النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك الآخرة.
فلو لم تكن هذه الأمور الملكية والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية والإرادية موجودة، ولو لم يُسلّط الله تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّفات، لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حدّ كماله الموعود ودار قراره وثباته، ولحصل النقص الكلّي في الملك والملكوت. لذا فإنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا لا يعود في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب إليها ومحبّتها.
وعليه يتبيّن أنّ أمام الإنسان دنياوين: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة - وهي دار التربية ودار التحصيل ومحلّ التجارة - على المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، وهي أمور لا يُمكن الحصول عليها دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى الموحّدين أمير المؤمنين علي عليه السلام ردّاً على من ذمّ الدنيا حيث قال: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها. مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة..."4.
وقال الله تعالى : ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾5 وهي دار الدنيا حسب ما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام.
وعليه فإنّ عالَم الملك، وهو مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجّه إليها والتعلّق بها وحبّها، وهذا هو منشأ كلّ المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية، كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"6.
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع هذا في أوّلها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن"7.
فتعلّق القلب بالدنيا وحبّها، هو الدنيا المذمومة. وكلّما كان التعلّق بها أشدّ كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب والحقّ سبحانه أسمك وأغلظ. وإنّ ما جاء في الأحاديث الشريفة من أنّ لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة، فيُمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه، الميول والتعلّقات القلبية بالدنيا. فكلّما كان التعلّق بالدنيا أقوى، كان عدد الحجب أكثر، وكلّما كان الحبّ لها أشدّ، كانت الحجب أغلظ واختراقها أصعب.
هل حبّ الدنيا أمر فطريّ وطبيعيّ؟
لمّا كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمّه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإنّ حبّ الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ مطلع نشوئه ونموّه، وكلّما كبر في العمر، كبُر هذا الحبّ في قلبه ونما. وبما وهبه الله من القوى الشهوانية ووسائل التلذّذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية، يزداد حبّه ويقوى تعلّقه بها، حتى يظنّ أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذّات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك اللذّات، وحتى لو كان يعرف من أدلّة الحكماء أو أخبار الأنبياء صلوات الله عليهم أنّ هناك عالماً أخرويّاً فإنّ قلبه يبقى غافلاً عن كيفية هذا العالَم الآخر وحالاته وكمالاته ولا يتقبّله، فضلاً عن بلوغه مقام الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلّقه بهذه الدنيا.
وبما أنّ حبّ البقاء فطريّ في الإنسان، وهو يكره الزوال والفناء، ويظن أنّ الموت فناء، فإنّه حتى ولو كان مؤمناً بعقله بأنّ هذه الدنيا دار فناء ودار ممرّ، وأنّ العالَم الآخر عالم بقاء سرمديّ يبقى الأساس هو الإيمان بالقلب، بل بمرتبة كماله الذي هو الاطمئنان، كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحقّ تعالى هذا الاطمئنان فأنعم به عليه. إذاً إمّا أنّ القلوب لا تؤمن بالآخرة مثل قلوبنا، وإن كنّا نُصدّق بها تصديقاً عقلياً، وإمّا أنّها لا اطمئنان فيها، فيكون حبّ البقاء في هذا العالَم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالَم موجوداً في القلب.
ولو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال والتصرّم والتغيّر، وأنّها دار الهلاك ودار النقص وأنّ العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنّها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حبّ تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا.
ولو ارتفع الإنسان عن هذا العالَم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى الصورة الباطنية لهذا العالَم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالَم - عالَم الآخرة - والتعلّق به، لأصبح هذا العالَم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه، ولنفر منه، واشتاق للتخلّص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغيّر. كما جاء في كثير من كلام الأولياء. فعن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"8.
ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثِر على مجاورة رحمة الحقّ المتعال شيئاً أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إنّ الوقوع في الكثرة ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبيرات الملكية بل حتى التأييدات الملكوتية، يُعدّ كلّ ذلك بالنسبة للمحبّين والمنجذبين، ألماً وعذاباً ليس بمقدورنا أن نتصوّرهما.
إنّ أكثر أنين الأولياء إنّما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنّه لا يحجبهم أيّ حجاب ملكيّ أو ملكوتيّ. فقد اجتازوا جحيم الطبيعية الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا من التعلّق بالدنيا وتطهّرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. ولكن النزول إلى عالم الطبيعة هو بحدّ ذاته حظّ طبيعي، وإنّ الالتذاذ القهري الذي يحصل في عالم الملك، يكون بالنسبة لهم حجاباً ولو كان قليلاً جداً. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليُران على قلبي وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة"9.
ولعلّ خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجّه القهريّ نحو تدبير الملك والحاجة الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور الطبيعية، وهذه تُعتبر خطيئة بالنسبة إلى أولياء الله المنجذبين إليه. ولو بقي آدم عليه السلامفي ذلك الانجذاب الإلهيّ، ولم يرد إلى عالم الملك، لما بسطت كلّ هذه الرحمة في الدنيا والآخرة.
الإنسان بحسب فطرته يعشق الكمال المطلق لا غير
خلق الله الإنسان في هذا العالَم وخلق معه فطرة عشق الكمال والبحث عنه. فكلّ إنسان يُحبّ الكمال بحسب فطرته وخلقته الأولى، ويسعى للوصول إليه والتحقّق به. بل إنّ أصل كلّ حركة وتصرّف عند الإنسان هو لأجل بلوغ الكمال المنشود. والفطرة الإنسانية لا تريد أيّ كمال، بل تبحث عن الكمال المطلق الذي لا حدّ له ولا منتهى. وهنا اختلف الناس وتفرّق الجمع أثناء سعيهم وبحثهم، فكلٌّ يرى الكمال في شيء. فأهل الدنيا توهّموا أن ما تصبو إليه فطرتهم من كمال موجود في هذه الدنيا، فانكبّوا لتحصيلها وتعميرها. ولكن العاقل البصير يعرف جيّداً أنّ هذه الدنيا ما هي إلا كمال محدود وفان، وإذا انشغل المرء فيها لم تزده إلا حاجة وفقراً، حتى يتشتّت أمره ويضطرب حاله، ويستولي عليه الغمّ والحسرة واليأس خوفاً من فقدها وأملاً ببقائها. أمّا أهل الآخرة فقد توجّهوا بقلوبهم وكلّ وجودهم نحو الكمال الحقيقيّ والمحبوب الواقعيّ، نحو عالم الآخرة، دار لقاء الله ومشاهدته، لأنّهم أدركوا أنّ مرادهم هو أسمى بكثير من كمالات هذه الدنيا الفانية وزخارفها المحدودة وسعادتها الزائلة.
لا يخفى على كلّ ذي وجدان أنّ الإنسان بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذّاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجّه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها. وبهذا الحبّ للكمال، تتوفّر إدارة الملك والملكوت وتتحقّق أسباب وصول عشّاق الكمال المطلق إلى معشوقهم. غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحقّ، والجمال في كماله سبحانه فيقولون: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾10، ويقولون: "لي مع الله حال"11.
وأهل الدنيا عندما رأوا أنّ الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتّجهوا فطرياً نحوها. ولكن لمّا كان التوجّه الفطريّ والعشق الذّاتيّ قد تعلّقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق.
إنّ الإنسان كلّما كثر ملكه وملكوته، وكلّما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية، أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه، ونار عشقه التهاباً.
فصاحب الشهوة كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجّه بنظرة طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنّها سيطرت على الكرة الأرضية برمّتها، لرغبت في التحليق نحو الكواكب الأخرى للاستيلاء عليها.
إلا أنّ هذه النفس المسكينة لا تدري بأنّ الفطرة إنّما تتطلّع إلى شيء آخر. إنّ العشق الفطريّ يتّجه نحو المحبوب المطلق. إنّ جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجّهات القلبية والميول النفسية تتوجّه نحو جمال الجميل المطلق ولكنّهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحبّ والعشق والشوق - التي هي معراج وأجنحة الوصول - إلى وجهة هي خلاف وجهتها، فيُحدّدونها ويُقيّدونها من دون أيّة فائدة.
إذاً فالمقصود أنّ الإنسان لمّا كان متوجّهاً قلبياً إلى الكمال المطلّق، فإنّه مهما جمع من زخرف الحياة فإنّ قلبه سيزداد تعلّقاً بها، فإذا اعتقد أنّ الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد حرصه عليها وتعلّقه بها واشتدّت حاجته إليها وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجّههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها.
كما أنّ أهل الله مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، متحرّرون من كلتا النشأتين وكلّ احتياجهم فقط إلى الغنيّ المطلق، فيغدو قلبهم متجلياً بمظهر الغنى بالذّات، فهنيئاً لهم.
ومضمون الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما قد شرحناه الآن حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه جعل الله الفقر بين عينيه، وشتّت أمره، ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه جعل الله الغنىفي قلبه وجمع له أمره"12.
ومن المعلوم أنّ من يتّجه بقلبه نحو الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة ومتغيّرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم وسرور، فتنقص حاجاته ويقلّ افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى حيث لا تبقى له حاجة إليها، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغنى الذّاتيّ والقلبيّ.
إذاً كلّما نظرت إلى هذه الدنيا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبك بها، إزدادت حاجتك إليها بحسب درجات حبّك لها، وبان الفقر في باطنك وظاهرك، وتشتّتت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهمّ، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنّياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغمّ والتحسّر، ويتمكّن اليأس والحيرة من قلبك، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث الشريف. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من كثر اشتباكه بالدنيا كان أشدّ لحسرته عند فراقها"13.
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "من تعلّق بالدنيا تعلّق قلبه بثلاث خصال، همٌّ لا يفنى وأمل لا يُدرك ورجاء لا يُنال"14.
أمّا أهل الآخرة، فإنّهم كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها، ولولا أنّ الله قد عيّن لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة.
فهم كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "نزلت أنفسهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب"15.
* كتاب جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 359.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص 63.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 70، ص 25.
4- نهج البلاغة، الحكمة رقم 131، صبحي الصالح.
5- سورة النحل، الآية 30.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 315.
7- م.ن.
8- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، الخطبة 15، صبحي الصالح.
9- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 55، ص 325، كتاب الصلاة، أبواب الذكر، الباب 22، ح 2.
10- سورة الأنعام، الآية 79.
11- إشارة للحديث المشهور المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل"، العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 360.
12- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 309.
13- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 325.
14- م.ن.
15- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، الخطبة 193، صبحي الصالح.