أمام أسرارٍ تكتنزها، الصمتُ أبلغ من الكلام. كزهرة الـ"قندول" الجنوبية البرية هي. حين يسدل الليل ستاره المرهف، كان خيالها البعيد ينعكس في عينيها نظرات ثورية. وأحياناً أخرى في أحلامها المتمردة. حملت في ملامح وجهها الجميل تقاسيم الجنوب اللبناني وفي قلبها جغرافيا فلسطين. تنشقت تراب الجنوب الممتزج برائحة النار والبارود، فقاومت حتى صار اسمها علماً من أعلام المقاومة. إنها خديجة حرز، عروسة الجنوب المحررة، نحكي بلسانها حكاية سُطرت بمداد القهر وسطوة الزمن الممتد خلف تلك القضبان الحديدة.
"ما عندي بنات تتمشى بالشوارع" عبارة أثقلت مسامع خديجة منذ الصغر، من قِبَل أمٍّ لم ترد لها أن تكون خارجة عن "حدود" مجتمعها آنذاك. استطاعت الوالدة تحويل شغف ابنتها الى ما هو أهم، القراءة. "منذ نعومة أظافري وأنا أقرأ الكتب بعيداً عن جلسات النسوة وأخبارهن الفارغ، كنت أشبع عطشي للمعرفة من خلال الكتب (جبران خليل جبران والقصص الأدبية من الروائع العالمية المترجمة)"، تقول حرز لموقع "العهد" الإخباري. فكان الكتاب أنيسها عندما تدعوها رفيقاتها للخروج فتتمنّع الوالدة عن السماح.
بدأت دراستها في الثالثة عشرة من عمرها، لأن تعليم الصبية في ذلك الحين كان الأولى. واقعٌ لم يستطع أن يفرض نفسه طويلاً على خديجة. فهي التي كانت تحمل شغفاً فريداً للعلم جعلها تسترق السمع والنظر من شباك المدرسة القريبة من منزلها، فتحفظ الأشعار وتلتقط خلاصات الدروس، وهو ما لاحظته والدتها، فكان أن فاجأتها ذات يوم بتسجيلها بالمدرسة.
فلسطين.. الوجع الأكبر
في روحها تعيش الثورة، قَرَأَت تاريخ فلسطين والقدس المحتلة، فصارت ملمّة ببعض السياسة، وبدأت تجاهر بأحلامها الثورية. قوبلت أفكارها بالرفض من قبل أسرتها الجنوبية المحافظة: "ما دخلك بالسياسية"، "عيب البنات تحكي بالسياسة، البنت لبيتها "، عبارات لطالما سمعتها خديجة من والدتها، دون اكتراث.
إثر أحداث أيلول "الأسود" في الأردن وانتقال الفدائيين إلى جنوب لبنان، كان لدى خديجة ما تقدّمه للثورة. بدأت تطبخ وترسل الطعام عبر أولادها للفدائيين الذين أتوا إلى الجنوب سراً. أولادها الذين تربوا في كنفها على الأناشيد الثورية والوطنية الفلسطينية، وكان أكبرهم يبلغ الثامنة من عمره. فلسطين قادت خديجة لاحقاً الى دراسة التمريض والالتحاق بالهلال الأحمر الفلسطيني.
حرز تقود مظاهرة على أبواب معتقل "أنصار"
سعت جاهدة للمساهمة في العمل المقاوم، فبحثت عنه في كل الميادين. في الثمانينات حيث جثم العدو الإسرائيلي على أرض لبنان، استفزها الذل والقهر داخل معتقل "أنصار". فما كان منها الا أن التقت النسوة اللواتي اعتقل أقاربهن، لدفعهنّ الى الانتفاض بوجه الواقع المذل للمعتقلين. جمعت خديجة النسوة في سيارات، وتوجهن الى معتقل أنصار. وبعدما قطعن الحواجز بصعوبة بالغة، وصلن إلى السواتر الترابية العالية، ارتبك عناصر الحاجز وطلب ضابط صهيوني منهن اختيار من تتكلم باسمهن. فكان أن وقع الاختيار عليها. سأل الضابط: "لماذا أتيتن الى هنا؟"، أجابته "أتيت لأسألك لماذا أنت هنا؟ هذه أرضي هذا ووطني وبلدي، أنت أتيت لتحتل أرضي".
استشاط الضابط الصهيوني غضباً من شجاعة وعناد خديجة، وضربها بطرف بندقيته، وبدأت النسوة بالصراخ، لكن خديجة اختارت الركض باتجاه آخر. لحق الجنود بها، تسلقت الساتر الترابي، نظرت ناحية المعتقل وصرخت "الله أكبر يا شباب، نحن هنا بمظاهرة نسائية". أخذ المعتقلون يتسلقون أكتاف بعضهم ليروا ماذا يحصل، ودبت الفوضى، وكانت المرة الأولى التي ينتفض فيها المعتقلون.
وسط الفوضى وإطلاق النار، هربت خديجة حتى تاهت في الوديان المجاورة. ومنذ ذلك الحين أصبحت تدعى "المخربة" بلسان الصهاينة الذين عمموا اسمها على اذاعاتهم. كانت تلك مرحلة مفصلية في حياتها النضالية. باتت السيارة سكنها، وصارت تنقل المعلومات والأسلحة والرسائل للمقاومة. لم تكن وحيدة في تلك المهمة، بل رافقتها طفلتها الصغيرة مريم.
في إحدى ليالي كانون 1983، غافلت خديجة كل الأخطار المحدقة بها، ولم تكترث لتحذيرات جارتها بشأن وجود عميل يراقب منزلها، فعادت إليه هرباً من الشتاء والبرد، احتست كوباً من الشاي الدافئ وغفت مع طفلتها. لكن الأمان الذي اعتقدت أنها ستجده في المنزل، ما كان ليكون بوجود المحتل. ما تزال خديجة حتى اليوم تذكر تفاصيل تلك الليلة، حين اقتحم جنود العدو المدججون بالسلاح منزلها في ظلام دامس. كانت كل أفكارها تدور حول مصير ابنتها، أما جسدها فبات أسيراً لدى الصهاينة بتهمة علاقتها بالصواريخ التي ضربت في حينها "كريات شمونة" ليلة اجتماع اللجنة اللبنانية - الصهيونية لتوقيع معاهدة سلام مع لبنان.
جدران سوداء.. وصراع مع النفس
وبدأ مشوار العذاب الطويل. خلال الرحلة القاسية للاعتقال كانت خديجة معصوبة العينين، جالسةً على أرض "البيك آب"، كل ما استطاعت رؤيته من تحت العصبة حذاء صهيوني وجزء من بندقيته.
ما هي الا ساعات حتى وصلت الى ذلك المكان، حيث الظلمة وصراع الروح مع النفس. ترددٌ قاتل، بين البوح وخيارات الاستسلام من جهة، والصمود المفعم برائحة الإخلاص الإنساني من جهة ثانية.
" إنها غرفة التعذيب والله وحده يعلم ما وراءها من لحظات قاسية، 15 يوماً من التعذيب النفسي والجسدي"، تقول حرز مستذكرة المشهد، وكأنه حاضر أمامها. ترتجف أطرافها وتشعر بالدوار كما لو أن اللحظة تعيد نفسها. هي مشاهد مرعبة. رأس مغطى بـ "كيس أسود"، ضرب بعصى على الرأس، ماء بارد ينسكب على جسدها الصامد في عز شتاء كانون، تهديدات وضغوط نفسية.
يعمد السجانون على انهاك الجسد والروح، هذا ديدنهم. أصعب العذابات كانت عندما يمسك السجان بحجابها مهدداً بنزعه، أو عندما يشتم والدتها، كانت تنتفض غضباً دون وعي. تروي "أدخلوني لغرفة جدرانها سوداء، المياه تجري في أرضها، يتناثر الشعر فيها، مشهد مرعب، كأنهم يقولون لك قبلك أسيرات تعذبن هنا وأتى دورك، هنا انقطع صوتي وجف حلقي، وبقي الاتصال القلبي موجود برب العالمين فقط، رحت أناجيه وأطلب منه أن يثبتني على قرار عدم الاعتراف. وسبحانه ما أكرمه اجتاحتني السكينة وأحاطني الهدوء، لم أعترف رغم العذابات والآلام والضغوط النفسية".
الأنس في سجن "الرملة"
"انني الآن أمام بهو طولي على جانبه زنازين مقطعة، وأبواب حديدة، وفي منتصف البهو الطولي يوجد طاولة تجلس إليها السجانات، والأسيرات يصرخن من نافذة صغيرة جداً وبلهجة فلسطينية "فدائية من لبنان جاي" " اش اسمك" "ما تخافيش إحنا معاكِ" "سجينات فلسطينيات سياسيات هدول جبنا ما يعملوش إشي"، تضيف خديجة "لا أنكر أن كلامهن خفف عني قليلاً، دخلت زنزانتي في سجن "الرملة" في فلسطين التي جمعت خليطاً مميزاً من الأسيرات، أسيرة لبنانية مسيحية وأخرى درزية ولبنانية جنوبية وأسيرة فلسطينية، في تلك الغرفة حبسنا الأنفاس معاً، ملايين الكلمات قلناها دون الحاجة للنطق، وما أصعب أن تسرق هواء من رئة إنسان يحتاج لكل ذرة أكسجين لكي يتمكن من الاستمرار بالحياة".
بعد الساعات الطويلة داخل تلك الزنزانة ستنفصل عن الواقع قليلًا، تطرح أسئلة لا تعرف لها إجابات، ليدور حوارٌ بينك وبين نفسك لا ينتهي إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل ما المصير الذي ينتظرني ؟ ما حال أطفالي؟ ما الخطوة المقبلة!
ثلاثة أشهر تعلّمت فيها خديجة الكثير. تعلمت اللغات وقرأت الكتب، وكان السجانون يستغلون الفلسطينيات في المعامل حيث يتعلمن صنعة لإرغامهن على العمل في المصانع الخاصة بهم، وعند اجتماعهن في غرفة الطعام يتعلمن من بعضهن ما تيسر لهن من حِرف أو لغات.
في المعتقل تسقط كل الحياة وملذاتها أمام القيم العليا والكرامة والعنفوان، ثقافة وعلم وأسيرات بروح واحدة كل هذه العوامل جعلتها أكثر قوة وجعلت من ذلك الأنس رفيق وحدتها.
وتلفت حرز لـ "العهد" الى أن زوجها كان معتقلاً في "أنصار" حيث كتب الله لهما الجزء نفسه من الحكاية وتقول "كانت تصلني الرسائل من وقت لآخر.. أذكر أنه بعث لي برسالة عبر الصليب الأحمر وكانت مؤثرة جداً، فكيف تضم حجرةٌ مظلمة صغيرة بحوراً لجية من الشعر.
بعد انقضاء ثلاثة أشهر نُقلت من سجن "الرملة" إلى معتقل "أنصار" في جنوب لبنان، وهناك كانت بداية جديدة مع المعاناة. هناك، اشتاقت خديجة لضوء الشمس، لم تفعل شيئاً سوى الجلوس على أسرّة الجيش القديمة المهترئة، تعاند البرد القارس وتحاول الصمود في زنازين الرطوبة. مع كل هذه المعاناة كانت تزداد ثباتاً عوضاً عن الشكوى؛ أملها في خط متصاعد ولا ينال من تفاؤلها أحد.
كانت بالشراكة مع المعتقلات تفتعل المشاكل، حتى بات السجن يشكل ضغطاً إعلامياً واقتصاديا وعبئاً ثقيلا على السجان.
أشهر قضتها داخل الزنزانة، إلى أن فُتح الباب يهمس باقتراب موعد الحرية، سمعت عن مفاوضات بشأن صفقة تبادل أسرى، أشد اللحظات قسوة كانت حينها بين الرجاء والأمل. بالصلوات والحلم قضت أيامها، وفعلاً خرجت من المعتقل بعملية التبادل الشهيرة سنة الـ 1984 بين الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية.
الحرية بعيون خديجة
عند حديثها اليوم عن الحرية تلمع عيناها فرحاً، ومع ابتسامتها الرقيقة تستشعر السعادة كما استشعرت معها من قبلُ الألم. تستذكر نثر الورود والأرز على الباص استقبالا، الهدايا الرمزية التي وصلتها من معتقلي "أنصار"، من الأساور الحديدية والمسابح ولوحات الخشب المنقوش عليها اسمها واسم زوجها، وأجملها عند خديجة عقد الخرز.
عندما تتحدث عن الصحف التي أسمتها عروسة الجنوب، ترى بريقًا يشعرك أن آلام المعتقل زالت مع نسائم الحرية، فإن "الانتظار لساعات طويلة في الليالي القاسية الماضية كان جميلا جدا عند التحرر، ومهما طال ليل الأسر فإن فجر الحرية آت لا محال".
* موقع العهد الاخباري