كل مسلم يعلم أنّ لشهر رمضان حرمة خاصّة عند الله تعالى. وهو يعلم أيضًا أنّ أعظم ما في هذا الشهر ليلة قدره. وتُحدّثنا الروايات الشريفة أنّ هذه الليلة شهدت عبر التاريخ البشريّ وقائع ملكوتيّة لا يفوقها في العظمة والمجد شيء. فصارت بحقّ أهم ميعاد لتنزّل الخيرات والفيوضات الإلهية.
إنّ كل خير يصل إلى أهل هذا العالم، إنّما يتنزّل من السماء، ومع ذلك فإنّ لإرادة الناس المدخليّة والتأثير على طبيعة ونوعيّة الخير وكمّيته. وتتمثّل هذه الإرادة في السعي للارتقاء إلى السماء وعبور حاجز الطبيعة. السماء هي كل ما علا؛ لكنّها في نظام الوجود المرتبة الكمالية الأعلى إذا ما قورنت بعالم الدنيا والناسوت.
لهذا، ما من كمال على الأرض إلا وقد نزل من السماء؛ ولولا هذا الاتّصال والتنزّل، لما نال أهل هذه الأرض شيئًا من الكمال والخير والفيض. تحنو السماء بطبيعتها على الأرض، لكن يجب أن تستعد الأرض لعطائها. وعلى أهل هذه الدنيا أن يتوجّهوا إلى الأعلى إن هم أرادوا الخير العميم. هكذا اقتضت مشيئة الله، وهكذا كان تدبير حكمته.
وقد سمعنا في الذكر الحكيم وفيما ورد من آثار المعصومين أنّ مِن البشر مَن بلغ في عروجه واتّصاله بالعوالم العليا ما لا يمكن لعقولنا تصوّره أو استيعابه. وكان هذا الاتّصال عند بعض الأولياء يبلغ مرتبة سماويّة أولى، وفي بعضهم كان يبلغ إلى الثانية وهكذا.. وقد كان لبعض خاصّة الأولياء قدرة عبور السموات السبع والإحاطة بها.
ومع كل عروج واتّصال، كانوا يصلون إلى كمالٍ أعلى، حتّى بلغوا مقام معدن الكمال ومنبع الخير. ولأنّ عروجهم هذا لم يكن منفصلًا عن حضورهم في هذا العالم الأرضيّ، فقد كان سببًا لوصل أهله بما نالوه. فهم فاتحو أبواب السموات ووسائط نزول البركات.
إلّا أنّ أعظم بركات هذا الاتّصال كان في تيسير عروج الناس ليبلغوا ما بلغوا. فقد حملتهم رحمة الحقّ على أن ينظروا بمنتهى الرحمة إلى عباد الله. وهكذا جلبوا معهم ذلك الحبل المتين الذي يلحق من تمسّك به. أجل لقد كانت ليلة القدر عبر التاريخ حافلة بهذه الفيوضات. فأيّ سعادةٍ يمكن أن تضاهي سعادة الاتّصال بمنبع الخير والكمال! ومن جانبٍ آخر، نعلم أنّ أفضل مظهر لهذا الوصل والاتّصال هو كتاب الله وكلماته لأنّها مظهر عظمته وأسمائه.
فما كان يجلبه هؤلاء الأولياء هو هذا الكتاب الذي يعبّر عن حضور الله بطريقة لا تشبهها طريقة. إنّ انفتاح أبواب السماء ليس كما نتصوّر في خيالاتنا وتصوّراتنا الحسّيّة المرتبطة بالأمكنة والأشياء، بل هو تعبير عن مستوى حضور الغيب المقدّس في نفوسنا وهو تعبير عن خرق ما يحجبنا عن ربّنا. فإذا حضر كتاب الله في قلبك، فلن يكون بينك وبين الله أي حجاب.
وحقيقة الكتاب ليست سوى هذا الحضور التام. ربما كان عروج الأنبياء قد حصل بعد رياضات شاقّة لا يعلمها إلّا الله، إلّا أنّ السبيل بعد الفتح أصبح ميسّرًا. تصوّر كيف ستكون حياتك لو أنّك كنت تعيش في عصر الجاهلية، بلا كتاب ولا قرآن! بل تصوّر حياتك الآن بلا قرآن. إذا كانت غاية كل عبادة ورياضة هي الوصول إلى مقام القرب، فإنّ هذا المقام أصبح بين يديك، وما عليك إلّا أن تنظر فيه. إذا كان عليك أن تذهب إلى الله بالعبادة، فإنّ الله تعالى يأتي إليك بكتابه العزيز.
إذا كنت تريد أن تشعر بحضور الله في حياتك، فإنّ هذا القرآن هو غاية الشعور. إذا كنت تريد أن تكون مع الله في كلّ أحوالك، فها هو كتابه ماثلٌ بين يديك. هذا هو الثواب الأعظم لكل عابد صائم اتّخذ شهر رمضان وسيلة للعروج إلى الله.
الكاتب: السيد عباس نور الدين