ما سبب وقوع حب عليّ في القلوب؟
سر الحب لم يكتشف لحد الآن، أي لا يمكن حصره ضمن قانون معين، بحيث يمكن القول انه إذا حصل كذا يحصل كذا، إلاّ أنّ في الحب ـ ولا شك ـ سراً. فقد يكون في المحبوب شيء يغشي بصر المحب فيجذبه إليه. وإذا ما اشتد هذا الجذب وارتفع الحب إلى أعلى الدرجات، قيل: إنّه العشق.
ولقد كان عليّ محبوب القلوب ومعشوق الناس، فلماذا؟ وكيف؟ فيم امتياز عليّ بحيث أثار العشق فولهت به القلوب، فاصطبغ بصبغة الحياة الخالدة؟ لماذا ترى القلوب أ نّها شديدة القرب منه، ولا تحسبه قد مات، بل تراه حياً يرزق؟ لاشك أن مبعث الحب فيه ليس جسمه، لأنّ جسمه لم يعد الآن بيننا، وما كنا أحسسنا به. إنّ حبه ليس من قب يل حب الأبطال الشائع في الأُمم..
كما نكون قد جانبنا الصواب إن قلنا: إنّ حبنا عليّاً تابع لحبنا الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وإنّ حب عليّ هو حب الإنسانية.. صحيح أنّ عليّاً كان تجسيداً للإنسان الكامل، وصحيح أنّ الإنسان يحب مثل الإنسانية السامية. ولكن لو أنّ جميع الفضائل الّتي امتاز بها عليّ من الحكمة، والعلم، والتضحية، ونكران الذات، والتواضع، والأدب، والمحبة، والعطف، والأخذ بيد الضعيف، والعدالة، والحرية، وحب الحرية، واحترام الإنسان، والإيثار، والشجاعة، والمروءة، والفتوة نحو العدو، والسخاء والجود والكرم. أقول: لو أنّ كلّ ما تحلى به عليّ من الفضائل لم يكن مصطبغاً بالصبغة الإلهية، لما كان على هذا القدر الّذي نراه عليه اليوم من استثارة للانفعال واجتذاب للحب.
فعليّ محبوب لكونه مرتبطاً بالله. إنّ قلوبنا ترتبط في أعماقها، وبغير وعي منا، بالله. ولما كان عليّ آية الله العظمى ومظهر صفات الله في أعيننا، فقد عشقناه.. في الحقيقة إنّ سند حب عليّ هو ما يربط النفوس بالله، ذلك الرابط الّذي كان في الفطرة دائماً. ولما كانت الفطرة خالدة، فحب عليّ خالد أيضاً.
سودة الهمدانية المحبة لعليّ وقفت أمام معاوية تصف عليّاً فقالت:
صلى الإله على روح تضمنها *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا *** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
صعصعة بن صوحان العبدي واحد آخر من المولعين بعليّ حباً. كان من القلة الّذين حضروا دفن عليّ في ذلك الليل البهيم.
وبعد أن تم الدفن وقف صعصعة على القبر واضعاً احدى يديه على فؤاده والأُخرى قد أخذ بها التراب ويضرب به رأسه، ثمّ قال: «بأبي أنت وأُمي ـ يا أميرالمؤمنين ـ هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك، فتلقاك الله ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى، فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى، وشربت بكأسه الأوفى، فاسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أُولئك.
فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده، وقمت بدين الله حقّ القيام، حتّى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام، وانتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام. بك اشتد ظهر المؤمنين، واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك. سبقت إلى إجابة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك، ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كلّ جبار عنيد، وذل بك كلّ ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى. فهنيئاً لك يا أميرالمؤمنين.
كنت أقرب الناس من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قرباً وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً، فهنيئاً لك يا أبا الحسن. لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نسباً، وأولهم إسلاماً، وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً.
فلا حرمنا الله أجرك، ولا أذلنا بعدك، فو الله لقد كانت حياتك مفاتح للخير ومغالق للشر، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شر ومغلاق كلّ خير. ولو أنّ الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة»(14). نعم، لقد اختاروا الدنيا لأ نّهم لم يستطيعوا الوقوف مع عدل عليّ واستقامته حتّى ظهرت أيدي الجمود الفكري من الاكمان وقتلت عليّاً.
ليس لعليّ(عليه السلام) نظير من حيث كونه موضع حب عارم من لدن أُناس ضحوا برؤوسهم في سبيل حبه، وارتقوا المشانق في سبيل الولاء له. إنّ الصفحات العجيبة الّتي كتبها هؤلاء في التاريخ لتثير الحيرة والدهشة، وهي مفخرة من مفاخر تاريخنا. إنّ دماء هذه النخبة تلطخ أيدي مجرمين أرجاس مثل زياد بن أبيه وابنه عبيدالله والحجّاج بن يوسف والمتوكل، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.
المصدر:علي في قوتيه الجاذبة والدافعة للشهيد مطهري