البصيرة تتعلّق بالقضايا
استكمالاً لمعرفة معنى البصيرة لا بدّ من التفرقة بينها وبين البصر، فالبصر هي حاسّة يعرف من خلالها الإنسان ما تتعلّق به العين، وما تتعلّق به العين هو شيء مادّي محدّد، يأتي -بصورته كما يعبّر المناطقة-، أو -بماهيّته كما يعبّر بعض الفلاسفة- إلى النفس الإنسانيّة. إنّ الانتقال الذي حصل هو انتقال صورة محدّدة تم تصغيرها مع المحافظة على كامل الأبعاد، لتدخل في ذاكرة الإنسان بالحجم المناسب بداية، ثمّ "لتُفلتَر" بعد ذلك من المادّة التي لا تتناسب مع النفس، فتدخل إلى النفس مناسبَةً في تجرّدها معها. هذا كلّه في أمر مادّي يأتي إلى الذهن صورةً، وهو من عمل البصر.
إنّ ما مضى يقع في دائرة ما يسمّيه علم المنطق بالتصوّر، لكنّ هناك أمرًا آخر يحصل في النفس الإنسانيّة هو عبارة عن قضيّة فيها - بتعبير المناطقة- موضوع ومحمول ونسبة بينهما، مثل: "هذه بيره"، فـ "هذه" إشارة إلى ما وقع عليه بصري، وهو الموضوع، و"بيره" هي ما أعلم حقيقته من خلال قاموسي العلمي المختزن في نفسي، وهي المحمول، إلاّ أنّ هناك أمرًا ثالثًا هو أنّي نسبت "البيره" إلى "هذه"، وهو ما يسمى "النسبة"، وإذا دقّقنا في هذه النسبة نلاحظ أنّ اعتقادي بها نشأ من عوامل فيها تحليل، ولم تنشأ فقط من البصر أو المعلومات المختزنة لديّ، فأنا حكمت عليها بأنّها "بيره" من خلال لون الزجاجة وشكلها، أو من خلال لون السائل ورغوته...أو ما شاكل، فقمت بتحليل داخلي أجريت فيها مطابقة بين صفات الـ "بيره" وبين "هذه" فحكمت عليها بأنّها "بيره".
لكن من الواضح أنّ هذا الحكم، حتى يكون صحيحًا، لا بدّ من مروره بمسار دقيق محكم، وإلاّ سيكون خاطئًا. وهذا المسار الدقيق المحكم يعتمد على بنود أساسيّة هي:
الأول: التأكّد من الذي أواجهه، فإن كان محسوسًا، فلا بدّ من سلامة الحواس، وتركيزها عليه دون غفلة.
الثاني: صحة المعلومات التي أختزنها في قاموسي النفسيّ، والاستعانة بمعلومات أخرى عند الحاجة إليها.
الثالث: استحضار الاحتمالات الأخرى المطلوبة في ما أواجهه.
الرابع: التحليل الصحيح لحسم النتيجة في ضوء ملاحظة ما واجهته والمعلومات والاحتمالات المتعلّقة به.
أمّا البند الأول، فأمره واضح، فمن كان عنده ضعف شديد في البصر أو عمًى في الألوان، فإنّه لا يصحّ أن يعتمد على حواسّه في قضية ترتبط بها. أمّا صحة المعلومات لا سيّما التي يختزنها، فهي مرتبطة - بشكل عام- بالعمليّة التربويّة التعليميّة الأولى في حياة الإنسان، والتي يؤكّد الإسلام، كما العلم الحديث، على ضرورة أن لا تكون المعلومات الأوليّة لدى الطفل ناشئة من التلقين، بل لا بدّ أن تكون نتاج التجربة الشخصيّة، والمعاينات الخاصّة، لذا دعا الإسلام، وكذا علم التربية، إلى ترك الطفل في سنينه الأولى دون تعليم تلقيني، ليتعرّف على معنى الحرارة حينما يقترب من النار، وليتعلّم علاقة العلّة بالمعلول حينما يضغطه زرّ الكهرباء فينير المصباح، ثمّ يضغطه مرّة أخرى فينطفئ، ثمّ يضغطه فينير، ثم يضغطه فيَنطفئ. ثمّ تأتي المرحلة التلقينيّة التي لا بدّ للوالدين والقيّمين على أمور المجتمع أن يواكبوا نقاوتها حتى لا تتلوّث بمعلومات تنتج أفكارًا خاطئة. وهذا ما أكّدته بعض الأحاديث الداعية إلى الالتفات إلى التكوين الفكري للأحداث، أي الناشئة، كالحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام: "بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليه المرجئة"18.
ثم تأتي مرحلة التحليل الذاتي التي يعتمد فيها الإنسان على نفسه في المعارف، والتي لا بدّ فيها أن لا يخطئ في تركيب المقدّمات الصحيحة كي تكون النتيجة كذلك. من خلال ما تقدّم أخيرًا نعرف أهميّة الأمرين الثالث والرابع في المسار الصحيح لحكم الإنسان، فإنّ الحكم الصحيح لا بدّ أن يقوم على نفي الاحتمالات الأخرى التي تؤدّي إلى خلاف ذلك الحكم، وتحليلها بهدف الوصول إلى النتيجة الصحيحة، فلو أنّ ذلك الشاب في المثال الذي طرحته استحضر احتمالات أخرى حول ما شاهده في ثلَّاجة أخيه، وحلّلها بالشكل الصحيح، فإنّه لن يصل إلى قناعة بكون ما في ثلَّاجة أخيه هو "بيره".
إنّ السير في ضوء تلك البنود الأربعة يوصل الإنسان إلى قناعة موضوعيّة بالقضيّة، إلى حدٍّ تصبح القضيّة كأنّها أمرٌ مرئيٌّ، ويصبح مولّد تلك القناعة كأنّه عين باصرة لها، لذا كما سمِّيت رؤية العين بصرًا، فقد سمّيت القناعة المتولِّدة من ذلك المسار بالبصيرة. فالبصيرة هي عقيدة القلب التي تنطلق من مسار صحيح تُري صاحبها القضيّة على واقعها كما هي عليه. من هنا قارب العلاَّمة الطريحي تعريف البصيرة بأنّها "الدلالة التي يُستبصَر بها الشيء على ما هو به"19.
وعرّفها بعضهم بأنّها "اسم لما اعتقدته في القلب من الدين وتحقيق الأمر"20. وعرّفها البعض بأنّها "عقيدة القلب"21 والبعض الآخر بأنّها: "رؤية القلب"22
يتبع..
المصدر:* كيف نبني مجتمعاً أرقى؟ سماحة الشيخ أكرم بركات.
الهوامش:
18- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج17، ص331.
19- الطريحي، مجمع البحرين، ط2، طهران، طراوت، 1362، ج3، ص224.
20- المدني، علي خان، رياض السالكين، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415هـ، ج4، ص417.
21- الفيروز آبادي، القاموس المحيط، (لا،ط)، (لا،ن)، (لا،ت)، ج1، ص373.
22- الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، ج20، ص106.