البصيرة
إنَّ كلمة البصيرة من الكلمات التي استعملت كثيرًا في النصوص الدينية، قرآنًا وأحاديث. ففي القرآن الكريم وردت في قوله تعالى:
أ- ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ 1.
ب- ﴿ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ 2.
وفي الأحاديث الشريفة وردت البصيرة في المواقع الآتية: أ- في توصيف كمال العقل، ففي الحديث النبويّ الشريف: "قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كانت فيه كمل عقله، ومن لم تكن فيه، فلا عقل له:
1- حسن المعرفة بالله عزّ وجل،
2- وحسن الطاعة له،
3- وحسن البصيرة على أمره
3. ب- في مقام دور البصيرة في الهداية، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعدًا"4.
ج- في مقام تفضيلها على البصر، ففي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ذهاب البصر خير من عمى البصيرة"5.
د- في مقام الدعاء لله تعالى، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم إنّي أسالك...أن تجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني، واليقين في قلبي"6.
وورد أنّ الإمام الحسين عليه السلام ورد أنّه كان يقول في قنوته: "...واجعل على البصيرة مدرجتي، وعلى الهداية محجّتي..."7.
هـ- في بيان كونها غاية للتفقّه في الدين، ففي الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام: "تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة..."8.
و- في مقام الحديث عن فضل من يتصفون بها، ففي حديث الإمام علي عليه السلام - في صفة من يحفظ الله بهم حججه وبيّناته: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين..."9.
وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام: "كان عمّنا العباس بن علي عليه السلام نافذ البصيرة صلب الإيمان..."10.
وفي زيارة العباس بن علي عليه السلام ورد: "وأشهد أنّك مضيت على بصيرة من أمرك"11.
أهل البصائر من لفظ "البصيرة"
نشأ اصطلاح "أهل البصائر" الذي استعمله أمير المؤمنين عليه السلام في بياناته، ففي نهج البلاغة ورد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خاطب معاوية بن أبي سفيان: "وأرديت جيلاً من الناس كثيرًا، خدعتهم بغيّك، وألقيتهم في موج بحرك، تغشاهم الظلمات، وتتلاطم بهم الشبهات، فجازوا عن وجهتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتولّوا على أدبارهم، وعوّلوا على أحسابهم، إلاّ من فاء من أهل البصائر، فإنّهم فارقوك بعد معرفتك، وهربوا إلى الله من موازرتك، إذ حملتهم على الصعب، وعدلت بهم عن القصد"12.
وفي بعض النصوص أنّ هذا المصطلح كان يستخدمه أيضًا بعض من عاصر أمير المؤمنين عليه السلام، فقد خاطبه عبد الله وعبد الرحمن ابنا بديل بن ورقاء قائلين: حتى متى لا تقاتل القوم؟ فقال الإمام علي عليه السلام لهما: "لا تعجلا". فقال عبد الله بن بديل: ما تنتظر بهم، ومعك أهل البصائر والقرآن..."13.
وفي كربلاء صاح أحد قادة جيش عمر بن سعد بأصحابه: أتدرون من تقاتلون، تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقومًا مستميتين14.
معنى البصيرة
إنّ ما تقدّم يشكّل حافزًا قويًّا لتحديد معنى البصيرةالذي نقاربه من خلال الحديث عن معنى البصر الذي اشتُقّ منه لفظ البصيرة، فالبصر هو أهمّ حاسّة من حواسّ الإنسان ويليها السمع. وما يشير إلى أهميّة البصر وتقدّمه على بقيّة الحواس هو ما دلّت عليه دراسة علميّة تفيد أن 75% مما يتعلّمه الإنسان يأتي من البصر، وأنّ 15% من السمع، و10% من بقية الحواس.
ولأجل كون هاتين الحاسّتين "البصر والسمع" تقعان على رأس الحواس تكرّر في القرآن الكريم وصف الله تعالى بـ "السميع البصير". ومن هنا نطرح سؤالاً يتعلّق بالسمع أولاً، ثمّ بالبصر ثانيًا. هل ما يسمعه الإنسان هو عبارة عن الحقيقة الواقعيّة؟ والجواب تارةً نلاحظه من ناحية تحديد هويّة صاحب الصوت، وتارةً أخرى من خلال معرفة معنى الكلمات التي نسمعها. أمّا هويّة صاحب الصوت فقد يكون من الصعب تحديدها واقعصا على ضوء إمكانية تقليد الأصوات، إلاّ إذا استطعنا الاستفادة من التقنيّة المتعلّقة بما يطلق عليه: بصمة الصوت.
أمّا معرفة معنى الكلمات التي نسمعها، فهل ما نفهمه من معاني يعبّر عن المعاني الواقعيّة المرادة؟ إنّ الجواب يتضح من خلال معرفة الحقيقة الآتية: أنا حينما أكوّن فهمًا معيّنًا من خلال الكلمات التي أسمعها من متكلّم يريد إفهامي مطلبًا ما، فهنا يوجد أمران واضحان:
1- فهمي.
2- المعنى المراد الذي ظهر من خلال تلك الكلمات. لكنّ هناك أمرًا ثالثًا يتوسّط هذين الأمرين، هو عبارة عن المحطّة الذهنيّة الوسيطة بين الفهم والمعنى المراد، وهذه المحطّة الوسيطة ليست قناة تكوينيّة معصومة بحيث تدخل فيها الأصوات، ويكون ناتجها دائمًا هو المعنى الحقيقيّ المراد، بل هي محطّة تتأثّر بعوامل عديدة يكون لها دور أساس في تكوين الفهم.
ألا نرى أن أحدًا قد يتكلّم بمطلب معيّن ويخرج الحاضرون، وكلٌّ منهم يؤكّد أنّ مراد المتكلّم هو معنى يختلف عن المعنى الذي يؤكّده الآخر. أذكر حادثة طريفة حصلت معي في إحدى المستشفيات حينما كنت أزور مريضًا، وكان إلى جانبه مريض يجلس قربه زائران يتخاصمان في ملكيّة أرض، وحينما رأيَاني هلّلا باعتبار أنّي سأجيبهما عن ما يتخاصمان حوله، وفعلًا طرحا المسألة، وكانت واضحة، وجوابها الشرعي واضحًا أيضًا، وحينما أجبتهما بتعبير بيّن، قال الأول للثاني: "سمعتَ". وقال الثاني للأوّل أيضًا: "سمعتَ". إنّ ما سمعه كلٌّ منهما هو أمرٌ واحد، لكنّ فَهْمَ الأول اختلف عن فهم الثاني، لماذا؟ لأنّ هناك محطّة وسيطة بين المعنى المراد والفهم تأثّرَتْ في الأول بعوامل معيّنة، بينما تأثّرَتْ عند الثاني بعوامل أخرى.
إنّ بعض علماء النفس يطلقون على هذه المحطّة الوسيطة اسم "النظام الإدراكي"، وهو نظام يقوم بتفسير المسموع وتحليله، وباختلاف التفسير والتحليل ينشأ الاختلاف بين الناس في ما يفهمون. من هنا ورد في الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام حول علاقة الأخ بأخيه المؤمن: "كذِّب سمعَك... عن أخيك"15.
فإذا سمعتُ الأخ المؤمن يقول قولاً، ثمّ طالبتُه به، فنفى أن يكون قد قال ذلك، فهنا الإمام الكاظم عليه السلام يقول لي: كذّب سمعك، ولا تكذّب أخاك، وهذا قد يكون مستغربًا عند البعض، إلاّ أنّ التأمّل فيما تقدّم يدفع الاستغراب، فإنّ ما فهمتُه ليس معلومًا أنّه عبارة عن ما قاله وأراده واقعًا، وإنّما هو فهمي الذي تكوّن عبر النظام الإدراكي الذي قد يتأثّر بعوامل عديدة، وعليه يمكن أن يكون فهمي ليس واقعيًّا، وعليه، فهو يحتمل الاشتباه، إذًا أنا أمام أمرين: تصديق فهمي الذي يحتمل الاشتباه، وتصديق قول الأخ المؤمن، فأيّهما اتّبع؟ الإمام الكاظم عليه السلام يجيب: قدّم ما قاله المؤمن على فهمك.
وهكذا الحال فيما نبصره، فأنا حينما يقع بصري على شيء ما، فهناك ثلاثة أمور:
1- المُبصَر الخارجي الواقعي.
2- التصوّر الذي حصل في ذهني.
3- الأمر الثالث هو الذي يتوسّط هذين الأمرين، وهو النظام الإدراكي الذي يقوم بتفسير الصورة القادمة إلى ذهني. وباعتبار كون هذا النظام يتأثّر بعوامل عديدة، فإن نتائج التصوّرات تختلف بسببه، وعليه فإنّنا نستطيع تفسير تكملة الحديث السابق من دون استغراب، إذ تكملته هي: "كذّب سمعك وبصرك عن أخيك"16.
وحول هذا الأمر أنقل قصّة لطيفة أيضًا حصلت معي في البرازيل، ففيها شراب شعبيّ يدعى "غُوْرَنَا"، وهو يُصنع من نبات لا إشكاليّة في حلّيّته، لكن مشكلته أنّه يشبه الـ"بيره" بشكل كبير، سواء في لونه أو رغوته، حتى أنّي حينما رأيت أول وصولي إلى البرازيل فتاة صغيرة في مطار "ساو باولو" تشرب منه، ظننت أنّها تشرب الـ"بيره"، وذات يوم كنت أقوم بعقد زواج فتاة على شاب، وضعوا الـ "غورنا" على الطاولات، لكن بعد قليل أتوا بالكاميرا يريدون التصوير، فاعترضتُ عليهم قائلاً: إمّا أن لا تصوّروا، أو تزيلوا أكواب الـ"غورنا" من المجلس، هم تعجّبوا، لكنّي وقتها كنت أستحضر قصّة ذلك الشاب الذي وجد في ثلَّاجة صديقه زجاجات مليئة بالمياه الغازية perrier، فاعتقد أنّ صاحبه يشرب الـ"بيره"، فأخذ يشهّر به بين المؤمنين، لجهله بتلك المياه الغازيّة، إضافةً لقلَّة تديّنه ووعيه، فلو أنّ هذا الشابّ كان متديّنًا واعيًا، لسأل صاحبه عن ماهيّة تلك الزجاجات.
ولكن لو افترضنا أنّه سكت ولم يسأله، ثمّ سأله بعد فترة، فأنكر صاحبه وجود زجاجات "بيره" في ثلَّاجته دون تبرير لذلك بأنّها مياه غازيّة، لكان الموقف للشاب المؤمن أن يمتثل قول الإمام الكاظم عليه السلام: "كذّب سمعك وبصرك عن أخيك"17.
يتبع...
المصدر: كيف نبني مجتمعا _الشيخ أكرم بركات
1- سورة يوسف، الآية 108.
2- سورة القيامة، الآيتان 14- 15.
3- الصدوق، محمد بن علي، الخصال، تعليق علي أكبر الغفاري، قم، جماعة المدرسين، 1403هـ، ص102.
4- البرقي، أحمد بن محمد، المحاسن، ص198.
5- الواسطي، علي، عيون الحكم والمواعظ، ص256.
6- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج73، ص96.
7- المصدر السابق، ج82، ص214.
8- الحراني، تحف العقول، ص410.
9- الإمام علي، نهج البلاغة، ج4، ص38.
10- الأمين، محسن، أعيان الشيعة، ج7، ص430..
11- الطوسي، مصباح المتهجّد، ص726.
12- محمد، أويس، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، ط1، مشهد، مجمع البحوث الإسلامية، 1408هـ ص436.
13- المحمودي، نهج السعادة، ط1، بيروت، دار التعارف، 1976م، ج2، ص156.
14- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص19.
15- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص215.
16- المصدر السابق نفسه.
17- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج72، ص215.