عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: "أغنى الغنى القناعة"1.
من وصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي عليه السلام: "... ومن قنع بما رزقه اللَّه فهو من أغنى الناس..."2.
الحديثان المباركان وغيرهما أحاديث كثيرة يتحدّثان عن قيمة أخلاقية عالية، لطالما ركّز عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، لترسيخها في نفوس المسلمين، ألا وهي أخلاقية القناعة.
معناها لغة وفي المرتكزات الشرعية
"والقناعة... الرضا بالقسم... وفي الحديث: "القناعة كنز لا يفنى"، لأن الانفاق منها لا ينقطع، كلما تعذر عليه شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه ورضي. وفي الحديث: "عز من قنع وذل من طمع، لأن القانع لا يذله الطلب فلا يزال عزيزاً... وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع..."3.
فالقناعة لغة هي الرضا بالقسم، وهو يلتقي مع معناها في المرتكزات الشرعية حيث تعني القناعة: أن يقنع الإنسان بما قسم اللَّه له من الأمور الدنيوية، بمعنى أن الإنسان إذا كانت طاقته لا تتحمَّل أن يتقدّم مادياً، وظروفه لا تساعده، فعليه أن يقنع بما هو عليه من المستوى المالي، إلى أن يفتح اللَّه عليه باباً من أبوابه. وهذا لا يعني أن لا يسعى الإنسان إلى تحسين حاله المادّي إن استطاع.
ولا تعمُّ القناعة الأمور المعنوية، فالإسلام دعا المسلمين إلى التزوّد والتنافس في الأمور المعنوية، كالعلم والإيمان والتقوى والخصال الأخلاقية الحميدة.
ولذلك قال تعالى: ﴿... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾(المطففين:26).
وقال سبحانه: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾(البقرة:197).
ويقول الإمام علي عليه السلام: "إن كنتم لا محالة متنافسين، فتنافسوا في الخصال الرغيبة"4.
المجتمع الغربي والحرص
وإذا أردنا أن نعرف أهميّة صفة القناعة، فما علينا إلا أن ننظر إلى المجتمعات المادية، كالمجتمعات الغربية (أوروبا وأمريكا)، فإن هذه المجتمعات لا قناعة فيها، وقيمها قيم مادية، يتنافس الناس في هذه البلاد على جمع الأموال وتحصيل المناصب، ويتكالبون على الدنيا نهماً وشراسة، لذلك وقع هذا المجتمع في أمراض روحية ونفسية وسلوكية خطيرة.
وإليكم تقرير يشهد لما نقول: ففي إحصاء صدر في الولايات المتحدة الأميركية "أن أكثر من 6% من السكان يعانون نوعاً من سوء التوافق (أي تعب نفسي)، وأن واحداً من كل عشرة من السكان يحتاج إلى معونة الطبيب النفسي إن عاجلاً أو آجلا، وأن واحداً من كل ثمانية عشر شخصاً ينفق بعض الوقت في مشفى عقلي، وأن عدد من يدخلون في المشافي في كل عام يساوي عدد من يتخرجون من الجامعات، وأن المصابين بأمراض عقلية أي جنون يشغلون من أسرة المشافي أكثر مما يشغله جميع المرضى بكافة الأمراض الأخرى، وأن نصف من يترددون على أطباء لعلل جسمية يعانون في الواقع من اضطرابات نفسية"5.
فمن هذا التقرير نشهد مدى ما يعانيه المجتمع الغربي من متاعب نفسية، بل أمراض نفسية، وما ذلك إلا لأنهم يحبون المال حبّاً جمّاً ويحرصون على جمعه والاستزادة منه، تاركين التنافس على المعنويات.
فالمجتمع الغربي لا يعيش حياة طيبة التي تسببها القناعة، سُئل علي عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾(النحل:97)، قال: "هي القناعة"6.
فمن الأمور المهمة في طمأنينة الروح، وسعادة الحياة، وطيب العيش، وراحة البال، القناعة التي هي كنز لا ينفد.
آفات الحرص
ولعدم القناعة على مستوى الفرد (والتي تنسحب على المجتمع) آفات كثيرة منها:
1- الغمُّ في الدنيا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً"7.
2- الحسد: فإن من لا يقنع بما رزق، فمن المحتمل أن يقع في آفة الحسد، والوقاية من آفة الحسد والطمع سكينة وعافية، قال الإمام علي عليه السلام: "صحة الجسد من قلّة الحسد"8 أما الطمع فصاحبه طول حياته هائم وحائر، كيف يجمع ويدَّخر.
3- الوقوع في الشّر: فغير القانع ربَّما يسلك مسالك منحرفة لكي يحصل على الأموال، فربّما يسرق أو يغصب أو يقتل، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: "خير المؤمنين القانع، وشرّهم الطامع"9.
4- فساد النفس: يقول الإمام علي عليه السلام: "أعون شيء على صلاح النفس القناعة"10 فالحرص لا يساعد على صلاح النفس.
5- ذلّة النفس: في الحديث: "ثمرة القناعة العز"11 فمن لا يقنع يذل نفسه.
علاج الحرص والطمع (عدم القناعة)
1- أن تعرف مضار عدم القناعة، وتأخذ العبرة من المجتمعات والأشخاص المبتلين بعدم القناعة.
2- أن لا تطلب فوق طاقتك، وفوق ظروفك، بمعنى أن ترضى بما قسم اللَّه لك، وبما أعطاك من طاقة، وهيء لك من ظروف.
3- أن يكون اهتمامك في المعنويات، وتنافسك في معالي الأخلاق، لا في اكتساب الأموال.
4- أن تأخذ بنصيحة الإمام الصادق عليه السلام: "أنظر إلى من هو دونك في المقدرة ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإن ذلك أقنع لك بما قسم لك"12.
ونصيحة أخرى أيضاً للإمام الصادق عليه السلام، فقد جاءه شخص يشكو إليه عدم القناعة فقال له: "إن كان ما يكفيك يغنيك فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكل ما فيها لا يغنيك"13.
5- أن تعرف أن اللَّه يوم القيامة لا ينظر إلى الأموال بل ينظر إلى الأعمال الخالصة ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(الشعراء:88-89).
عن النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله: "اقنع بما أوتيته يخف عليك الحساب"14.
خاتمة
إذا أردتم راحة الدنيا قبل الاخرة، وسعادة الأولى قبل الاخرة، فما عليكم إلا بالتمسُّك بصفة القناعة في المادّيات.
وإن كنتم لا تقنعون، فلتكن عدم قناعتكم في المعنويات، فلتتنافسوا فيها، لتعمر نفوسكم وعقولكم بالغنى، فإن الغنى الحقيقي هو غنى المعنويات، لا غنى المادّيات.
موعظة للعبرة
طلب المزيد والكمال المطلق
يقول الإمام الخميني: لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسان، بحسب فطرته... يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه.
وهذا من فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها...
غير أن كل امرىء يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه، فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها. وأهل اللَّه يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله...
وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لما كان التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلق بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق.
إن الإنسان مهما كثُر ملكه... ومهما نال من الملكات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّة، ونار عشقه التهاباً.
فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدت نار شوقه إليها.
كذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجه بنظرةٍ طامعة إلى قطر آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها.
إلا أن هذه النفس المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنما تتطلع إلى شيء آخر... إنه لما كان الإنسان متوجهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنه مهما جمع من زخرف الحياة فإن قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها، واشتدت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدّنيا، فكلما ازداد توجههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها، كما أن أهل اللَّه مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة)،... وكل حاجتهم نحو الغني المطلق...
إذاً مضمون الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما مرّ شرحه من قوله: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همِّه جعل اللَّه الفقر بين عينيه، وشتت أمره، ولم ينل من الدنيا إلا ما قُسِم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همِّه جعل اللَّه الغنى في قلبه وجمع له أمره"15.
*أغنى الناس، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، شوال 1424هـ ، ص117-124.
1- مستدرك وسائل الشيعة، الميرزا النوري، ج15، ص223.
2- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص7.
3- لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص298.
4- ميزان الحكمة، الري شهري، مج3، ص146، ح5042.
5- الصحة النفسية، د. مصطفى فهمي، ص7.
6- ميزان الحكمة، الري شهري، ح17124.
7- جامع السعادات، النراقي، ج2، ص103.
8- فلسفة الأخلاق في الإسلام، محمد جواد مغنية، ص208.
9- ميزان الحكمة، الري شهري، حديث 17142.
10- ن.م، حديث 17161.
11- ن.م، حديث 17160.
12- الكافي، الكليني، ج8، ص244.
13- ن.م، ج2، ص139.
14- ميزان الحكمة، حديث 17168.
15- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص127 66 126.