كفالة الزهراء " الجريح هادي – تاريخ الاصابة 15/07/2015
في ذلك اليوم، وقبل بدء الهجوم المقرر تنفيذه بعد ساعات على نقطة في منطقة الخالدية، كنت أتمشى وحيدا، وإذ بصوت في داخلي يخاطبني: "ماذا لو أُصبتَ يا هادي، ولزمتَ فراشكَ بقية عمرك؟"
شعرت كأن قدميّ تسمّرتا في مكانهما من هول هذا السؤال الذي وقع علي كأنه الصاعقة، فأنا لم أفكر قط في هذا الأمر: إصابة، فارش، عجزٌ عن حمل السلاح، بعدٌ عن ساح الجهاد... ! فحاولت الهروب من هذه الإفكار التي كان مجرد تذكرها صعبا وقاسيا لدرجة لا تُحتمل.
لحظات ودوّى سؤال آخر في أعماقي: "ولمَ لا ترضى يا هادي إن كانت إصابتك لله، وفي عينه وفي سبيله؟ لمَ لا ترضى إن كان هذا اختيار الله لك؟ أوليس الخيار حتما في ما يختار؟" ... "بلى، الخير فيما يختاره ربي، لقد رضيتُ بقضائك يا رب". كان هذا جوابي على السؤال، بعدما أيقظتني رحمة ربي من مستنقع التردد الذي كنت على وشك السقوط فيه!
حان الموعد، فكان الهجوم، وكان نصيبي خلاله رصاصةٌ سقطتُ إثرها محتضنا الأرض!
بعد مدة من الزمن - لا أدري كم هي على وجه التحديد - أقبلَت إلي امرأة جليلة، عرفت أنها مولاتي فاطمة (عليها السلام)، دنت مني وخاطبتني قائلة: "لقد تكفّلتُك ورفاقك يا هادي فلا تخف، ولا تحمل هم عودتك إلى العمل، ستكون بخير، وسترجع إلى مكان قد هيّأته لك بنفسي، هو أفضل من الذي كنتَ فيه!"
.....فتحت عينيّ بعدها، لأدرك أني في المستشفى، وأني قد صحوتُ للتوّ من غيبوبة دامت خمسة أيام وصلتُ فيها وفق تشخيص الأطباء للموت المحتّم أربع مرات، بسبب التهاب حادّ أصاب دماغي جرّاء الرصاصة التي دخلته، وقد أدّى هذا الالتهاب إلى فقدانٍ تامّ للبصر، وشللٍ نصفيّ كان يرى المتخصصون أنه سيتحوّل حتما إلى شلل رباعيّ، هذا إن بقيت على قيد الحياة!
ولكنّي اليوم قد استرجعتُ بفضل الله تعالى نسبةً عالية من قدرتي البصرية، كما بتّ قادرا على المشي بشكل طبيعي تماما، وكلّي يقين أنني سأصبح بكامل عافيتي، ليس لأني أستحق ذلك، فأنا عبدٌ مسكين فقير لا أرى نفسي لائقا بما جرى عليّ من خيرٍ عميم! بل لأن من وعدني وكفلني هي الزهراء فاطمة!
إنها هنا " الجريح أبو مصطفى –تاريخ الاصابة 15/10/2013
"الشهادة هي عشقي الذي يزداد استعاره في قلبي يوما بعد يوم، والحلم الذي لا يفارقني على الإطلاق، والذي أطمع أن يرزقني الله تعالى إياه حين يشاء!!
أقول "حين يشاء"، لأنني كنت قبلا أظن أنني محروم من الشهادة لأمر أو ذنب عظيم اقترفته، وكان هذا الظن يحرقني بشدة، وخاصة عندما يستشهد أحد المجاهدين قربي، ولا يكون نصيبي سوى الجراح، إلا أن هذا الضيق تحول إلى ثقة بالله، وأمل بجميل قضائه، بعدما جرى معي ما حرى.
فقد صارحت الشيخ محمد تقي البهجة (رضوان الله عليه) ذات مرة، بما كان يختزنه صدري، فقال لي: "لا بدّ أن دورك لم ينتهِ بعد". كلامٌ خفّف وجعي في حينه، إلا أنني أدركت حقيقته الجليلة يوم بدأت جهادي في سوريا، وبشكلٍ أعمق يوم سألت أحد الأسرى المسلحين عن سبب وجوده في سوريا، فأجابني: لقد جئنا لتدمير "معبد" زينب!
لقد شكرت الله حينها أن أطال عمري لأكون ممن يحامي بروحه عن الحوراء (سلام الله عليها) في هذه المعركة الإلهية ضد أولئك الأنجاس!
وأضاف:
"نحن لسنا وحدنا في هذه المعركة، لقد بات عندي يقين بأن آل البيت عليهم السلام جمعيهم معنا. معنا حين القتال، ومعنا حين الشهادة!"
ويتابع:
"أتدرين؟ لما أصبت والشهيد "ربيع"، استطعت الاقتراب منه قليلا، وإذا به يخاطبني: أنظر يا "أبا مصطفى"، إن الزهراء تقف هنا!
سألته بلهفة: أين؟ أنا لا أراها!
رد عليّ بصوت ضعيف: ها هي، تقف بيني وبينك تماما!
في تلك اللحظة، عرفت أن الحجب قد ارتفعت عن بصر "ربيع"، الذي راح ينادي: يا زهراء، يا زهراء!
ثم سألني: هل تريد شيئا مني؟
أجبته وقد سلَب لبّي ما إراه من حالته: لا.
فنادى مجددا: يا زهراء، ثم غفا إغفاءة الرحيل، والبسمة تعلو وجهه.
حينها صرت أجول ببصري في المكان باحثا عنها عليها السلام، وأنا أقول: لقد قال "ربيع" أنها هنا، فهي حتما هنا، كلهم هنا!!
ولما لم أرها، ناديتها: مولاتي يا فاطمة، أنا أعلم أنك هنا، ولكن عينيّ قاصرتان عن رؤيتك! مولاتي اشفعي لي حتى إنال الشهادة في حبكم، وفي معركتكم هذه.
مولاتي يا فاطمة، سأبقى حين تريدون، وسأبقى بالانتظار!
* من كتاب ظلال زينب الجزء 3